رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خلطة بوتين السحرية فى «الطبخة السورية»


بعد ثلاثة أعوام من التدخل الروسى المباشر فى الأزمة السورية، يبدو الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ممسكا بإتقان بأغلب خيوط اللعبة فى يده، ويتحرك على المسرح ليس كزعيم أو كأحد صانعى السياسة فى العالم، بل كعطار ماهر يمتلك أسرار الخلطة التى ابتكرها من كتبه الصفراء التى لم يطلع غيره على أسرارها، وهو قادر على إطعام جميع الأطراف هذه الخلطة السرية، التى تعطى وجبته مذاقا رائعا لمن يسير فى ركابه، لكنها تتحول بقدرة قادر إلى مذاق شديد المرارة فى حلق من يتجرأ على مخالفة مخططه.
المتابعون للأزمة- أو للمأساة- السورية، يعرفون أن المسرح كان مفتوحا هناك، أما الولايات المتحدة وحدها بتأييد من حلفائها فى حلف الناتو، وبدعم كبير من قوى عربية فكانت تمول بسخاء هذه التنظيمات الإرهابية الدموية التى سيطرت على الساحة، وكانت هذه الأطراف العربية لا تتحدث إلا عن رحيل الأسد باعتباره بداية الحل الحقيقى للحرب الطاحنة فى هذا البلد.
ولكن التدخل الروسى المباشر اعتبارا من ٣٠ سبتمبر عام ٢٠١٥، بأمر من الرئيس بوتين وبعد موافقة مجلس الدوما، قلب المعادلة رأسا على عقب، وهو تدخل لم يكن وليد المصادفة بطبيعة الحال، فقد بدأ بإطلاق ٢٦ صاروخًا من نوع «كاليبرا» على مواقع الإرهابيين، وفى اليوم نفسه تم الإعلان عن وجود أكثر من ثلاثين طائرة سوخوى من مختلف الوحدات الفضائية الجوية فى مطار حميميم قرب اللاذقية، ومن يومها تغيرت كل قواعد اللعبة، فتضاءل النفوذ الأمريكى، واختفى نفوذ ما سمى بتنظيم داعش وجبهة النصرة وكافة التنظيمات الدموية، التى لم يعد لها على الساحة سوى وجود رمزى فى بعض الجيوب أكبرها فى محافظة إدلب.
لم يرحل الأسد وتوقف أصحاب الخزائن العربية عن المطالبة بسقوطه، لكن الأسد لم يعد «ملك الحلبة»، ولا رجل سوريا القوى كما كان قبل ٢٠١١، رغم أن الانتصارات تنسب إليه والهتافات ترفع باسمه، لكنه باق فى المعادلة السورية لحين إشعار آخر سوف يأتى بطبيعة الحال من الكرملين، فهو الذى يمنحه السلاح بحساب من طائرات ودبابات ومدفعية ويرسم له الخطط الاستراتيجية، لكنه يتغاضى عن ضرب المناطق الحيوية فى بلاده بواسطة الطيران الإسرائيلى، وقد ظل لسنوات يرفض مده بمنظومة صاروخية أكثر تقدما تضمن له صد الضربات الإسرائيلية المهينة واحدة تلو الأخرى.
وليس هذا هو سر عبقرية الخلطة السرية التى يقدمها بوتين، لجميع أطراف المعادلة فيتناولونها بسعادة، لكن العبقرية تبدو فى أنه أصبح قادرا على أن يقنع الجميع بأن موقع كل طرف يصبح قابلا للتغيير والتعديل وربما الشطب إذا أراد عطار الكرملين الساحر ذلك، فتركيا التى كانت تحلم بابتلاع الشمال السورى كله فى ظل الهيمنة الأمريكية على ساحة الحرب فى سوريا، أصبحت فى لحظة هدفا عدائيا لروسيا بعد حادث إسقاط الطائرة الروسية، وبعد سيل من الاعتذارات والتوسلات تبدل موقفها وموقعها، فتحولت إلى حليف لمواقف روسيا فى سوريا، ويبدو أنها اكتفت بالتنسيق حول إدلب فقط وربما بعض المناطق الاستراتيجية قرب منبج.
أما الحليف التقليدى والعقائدى للأسد وهو إيران، فقد بدا واضحا أن شيفرته أيضا فى يد العطار الروسى، الذى ينسق معه كل التحركات، لكنه لا يغضب إذا تعرضت مواقعه للقصف الإسرائيلى، بل يطلب من الإيرانيين أن يبعدوا قواتهم بمسافة ١٦٠ كيلو مترا عن حدود إسرائيل، فهى حليف استراتيجى للكرملين منذ أيام الاتحاد السوفيتى الذى كان أول دولة تعترف رسميا بقيام دولة إسرائيل.
لهذا كله استطاع بوتين بواسطة خلطته السحرية، أن يحتفظ بموقع الصدارة على المائدة السورية التى يسعى لالتهام «نصيب الأسد» فيها، مع الاحتفاظ بالحلفاء التقليديين حول المائدة.. انتظارا لما سيلقيه إليهم بإرادته أو مضطرا.
وعندما أحس الساحر أو العطار الروسى أن إسرائيل وحدها هى التى تغرد خارج سربه، وأنها تسببت فى إسقاط طائرة عسكرية له وقتل ١٥ عسكريا روسيا، قرر أن يغير فى مذاق الوصفة السحرية لتبدو أكثر مرارا لها، فأعلن أنه- ولأول مرة- سيمد حليفه الأسد بمنظومة الدفاع الجوى «إس ٣٠٠»، فساد الخوف فى إسرائيل.
وهذا كلام لا يقال من قبيل السعادة أو التمجيد لبوتين وخلطته السحرية، بل من قبيل الأسى على ما آلت إليه الأمور فى سوريا الغالية على قلوبنا جميعا، والتى أصبح شعبها ورئيسها آخر من يقررون مصيرها.