رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجنرال المرعب أسرارالمشير الجمسى

الجمسى
الجمسى

بكى فى فك الاشتباك بسبب تخفيض حجم القوات المصرية على الضفة الشرقية

فى مذكرات المشير محمد عبدالغنى الجمسى، أحد أساطير العسكرية المصرية، لا بد أن تتوقف طويلًا أمام هذا المشهد الدرامى المثير الذى سالت فيه دموع الجنرال النحيف المخيف كما كانوا يلقبونه فى إسرائيل.
ففى منتصف يناير ١٩٧٤ كان الوفد المصرى يخوض معركة مفاوضات فك الاشتباك مع الجانب الإسرائيلى بعد حرب أكتوبر المجيدة، وبعد جولات مرهقة من المفاوضات فى «الكيلو ١٠١» وفى جنيف، قرر وزير الخارجية الأمريكى الداهية هنرى كيسنجر أن يأتى بنفسه إلى أسوان ليفاوض الوفد المصرى.
وفى مذكراته يكتب الجمسى: «كان الوفد المصرى مكونًا من إسماعيل فهمى، وزير الخارجية، رئيسا، وأنا (بصفتى رئيس أركان الجيش المصرى) ومحمد رياض وأحمد عثمان وعمر سرى وآخرين من وزارة الخارجية، وكان الوفد الأمريكى برئاسة الدكتور كيسنجر.. جلسنا لإجراء محادثات جادة وسرية قرابة الساعتين، نوقشت فيها موضوعات سياسية وأخرى عسكرية، وأبلغ كيسنجر الحاضرين ببنود الاتفاق الذى توصل إليه مع الرئيس السادات حول الموضوعات العسكرية، وهنا كانت المفاجأة لى وللحاضرين عندما ذكر كيسنجر أن الرئيس السادات وافق على تخفيض حجم القوات على الضفة الشرقية للقناة لتصبح ٧٠٠٠ رجل و٣٠ دبابة وعددا محدودا من قطع المدفعية.. وأتذكر أننى أبديت رفضى لتخفيض حجم القوات كما هو مقترح، وقلت للدكتور كيسنجر: إنك تعطى لإسرائيل كل ما يضمن تأمين قواتها وتحرمنا من كل ما يضمن تأمين قواتنا، إننى لا أوافق على ذلك ولا يمكننى إيجاد المبرر له أمام القوات المسلحة.
قال كيسنجر إنه يضع استراتيجية للسلام مستقبلا.. قلت له إنى لا أتحدث عن السلام ولكنى أتحدث عن تأمين قواتنا، وتركت غرفة الاجتماعات بانفعال بعد أن اغرورقت عيناى بالدموع واتجهت إلى الحمام.. ولما عدت لغرفة الاجتماعات ظللت صامتًا حتى النهاية، وأخذ كيسنجر يغرقنى بالمديح ويقول إن العسكريين الإسرائيليين يقدرون تماما كفاءة الفريق الجمسى وإن إسرائيل اعترفت بأنها تخشاك أكثر مما تخشى القادة العسكريين العرب الآخرين.. لقد بقيت صامتا دون أن أعلق بكلمة على ما قاله كيسنجر لأن المديح لم يكن يمحو المشكلة الحقيقية التى نواجهها». هذه هى قصة دموع الجمسى كما حكاها بنفسه، وكان هيكل أول من أوردها وكشف عنها وأضاف إليها الكثير من لمسات حسه الروائى.
ومن يقرأ تاريخ الرجل- الجمسى- سيدرك أن دموعه فى تلك اللحظة كانت رد الفعل الوحيد المتسق مع شخصيته، فهو رجل خُلق للحرب والمعارك والقتال والانتصار، ولا يعرف الهزيمة ولا الانسحاب ولا مناورات السياسة ودهاء السياسيين.
ولكى نفهم سر دموع الجمسى فى مفاوضات فك الاشتباك بعد انتصار أكتوبر العظيم الذى نحتفل هذه الأيام بذكراه الخامسة والأربعين «وكان هو واحدا من كبار قادته وصناعه بحكم منصبه رئيسًا لهيئة العمليات ثم رئيسا للأركان» علينا أن نعود إلى مشهد مهيب آخر نزلت فيه دموع الرجل، ويومها كان رئيس عمليات القوات البرية وأحد كبار قادة جبهة القتال فى سيناء، ورأى تفاصيل حرب الأيام الستة ١٩٦٧ التى هُزمت فيها قواته دون أن تحارب.
يحكى الجمسى: «توجهت إلى منزلى لمدة ساعة واحدة منكس الرأس، وعندما واجهت زوجتى وأبنائى والدموع فى عينى كنت أستشف منهم وعلى وجوههم كثيرا من التساؤلات عما حدث وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟ كم كنت أشعر بالدهشة تعقد ألسنتهم والصدمة شديدة عليهم».
واكتملت الأحزان بعد أن رحل والده فى شهر النكسة نفسه، فذهب ليودعه بملابس الميدان ويعود من العزاء ليبدأ رحلة الثأر.
كان الجمسى من القادة العظام الذين تحملوا مسئولية إعادة بناء القوات المسلحة المصرية وتجهيزها لمعركة رد الشرف والكرامة والأرض.. رفض الرئيس عبدالناصر استقالته بعد النكسة، وعينه السادات رئيسا لهيئة تدريب القوات المسلحة ثم رئيسا للمخابرات الحربية قبل أن يختاره رئيسا لهيئة العمليات فى يناير ١٩٧٣.
ولذلك يعرف الجمسى حجم التضحيات التى بُذلت فى المعركة، والثمن الباهظ الذى دفعه الجيش من دماء أبنائه وعرقهم، ويعرف أن العبور لم يكن صدفة، والهزيمة الأولى والكبرى التى تلقاها الجيش الإسرائيلى جاءت بفاتورة ثقيلة التكاليف.
ولأنه يعرف.. بكى، فقد كانت دموعه فى مفاوضات فك الاشتباك موجعة حتى لخصومه على طاولة المفاوضات، وكتب وزير خارجية مصر إسماعيل فهمى وكان رئيس وفدنا المفاوض: «بعد أن غادر الجمسى الغرفة دامعًا تأثرت مشاعر الوفد المصرى الذى كان يشعر بنفس شعور الجمسى، وكان يمكن أن يرى المرء بسهولة على وجه الوفد الأمريكى أنهم أيضا شعروا بالظلم الذى وقع على مصر.. غير أن كيسنجر كان لا يفكر إلا فى نفسه، وقد شحب لونه وظل يدمدم قائلا: ما الخطأ الذى قلته؟».

حدد موعد حرب أكتوبر وتوقيت ساعة الصفر.. وجنرال صهيونى أدى له التحية العسكرية فى لقاءات «الكيلو ١٠١»

كان اسم المشير الجمسى وحده كفيلًا ببث الرعب فى نفوس العسكريين الإسرائيليين، وكانت جولدا مائير، رئيسة الحكومة فى وقت حربى الاستنزاف والعبور، تسميه «الجنرال النحيف المخيف»، وذكرنا أن وزير الخارجية الأمريكى الأشهر هنرى كيسنجر قال عنه «إن العسكريين الإسرائيليين يقدرون تماما كفاءة الجمسى ويخشونه أكثر من القادة العرب الآخرين».. وفى كتابات المؤرخين والباحثين فى كليات القادة والأركان الأوروبية تجدهم يقارنونه دوما بالقائد الألمانى الأسطورى روميل، ويرونه أبرع من أنجبت العسكرية المصرية فى معارك المدرعات. تخرج الجمسى فى الكلية الحربية فى العام ١٩٣٩، وعندما التحق ضابطا بسلاح المدرعات كان عمره ١٧ عاما و٣ أسابيع فقط، ومع ذلك أثبت كفاءة نادرة، وتم إلحاقه بالمخابرات العسكرية، ثم مدرسا بمدرسة المخابرات، وكان من أكثر الضباط المصريين دراية ومتابعة ودراسة للجيش الإسرائيلى وتسليحه، وبحكم هذه الخبرة كان فى طليعة من اختارهم الرئيس عبدالناصر بعد نكسة ١٩٦٧ للإشراف على تدريب القوات المسلحة المصرية وإعادة بنائها.. وتولى رئاسة هيئة التدريب بالجيش المصرى.. أثناء التحضير لمعركة العبور اختاره السادات لرئاسة هيئة عمليات القوات المسلحة. والثابت فى كل الوثائق والشهادات الخاصة بالمعركة أن الجمسى هو من اختار توقيت حرب أكتوبر بناء على دراسة علمية شديدة البراعة والاحترافية، وبحسابات مناخية وبيئية وسياسية دقيقة، أعدتها هيئة عمليات القوات المسلحة كان الجمسى على رأسها، وحدد أنسب التوقيتات لساعة الصفر، وفى مذكراته كتب الجمسى نصًا: «سلمت هذه الدراسة بنفسى مكتوبة بخط اليد لضمان سريتها للفريق أول أحمد إسماعيل الذى قال إنه عرضها وناقشها مع الرئيس السادات فى برج العرب بالإسكندرية فى أوائل أبريل ١٩٧٣، وبعد عودته أعادها لى باليد، ونقل انبهار وإعجاب الرئيس السادات بها، وعبر الفريق أول أحمد إسماعيل عن شكره لهيئة عمليات القوات المسلحة لمجهودها فى إعداد هذه الوثيقة الهامة بقوله: «لقد كان تحديد يوم الهجوم عملا علميا على مستوى رفيع، إن هذا العمل سوف يأخذ حقه فى التقدير وسوف يدخل التاريخ العلمى للحروب كنموذج من نماذج الدقة المتناهية والبحث الأمين».
وكان السادات يشير فى خطبه وأحاديثه دومًا إلى تلك الدراسة التى كتبها الجمسى بخط اليد، ويسميها «كشكول الجمسى»، والمدهش أن الجمسى نفسه كان يعترض على تلك التسمية رغم ما تحمله من تقدير بالغ لشخصه ودوره فى الحرب، ويفضل أن يسميه «كشكول هيئة عمليات القوات المسلحة»، اعترافًا منه بالفضل الذى قام به الرجال والخبراء فى هيئة العمليات لتحديد التوقيت الأنسب للمعركة، وكان هذا التوقيت فارقًا بالفعل ولعب دورًا مهمًا فى تحقيق النصر.
كان الجمسى يحمل رتبة اللواء وقت الحرب، وبعدها رقاه السادات إلى رتبة الفريق ومنحه «نجمة الشرف العسكرية»، وتقديرا لدوره كذلك اختاره وزيرا للحربية فى العام ١٩٧٥ وقائدا عاما للجبهات العربية الثلاث، وظل الجمسى فى منصبه حتى العام ١٩٧٨، ليكون آخر من تقلد منصب وزير الحربية، حيث جرى تغيير اسمها بعد ذلك إلى وزارة الدفاع.
ونظرا لتاريخه وخبرته الهائلة بالعقلية العسكرية الإسرائيلية اختاره السادات ليتولى التفاوض مع الإسرائيليين فيما عرف بمفاوضات الكيلو ١٠١، وكان المشهد مذهلًا عندما وقف الوفد الإسرائيلى فى المفاوضات بقيادة الجنرال «أهارون بارليف» ليؤدوا التحية العسكرية للجنرال النحيف المخيف.. وكأنه اعتراف منهم له بالنصر.
عاش طفولته فى قرية «البتانون» بالمنوفية، التى ولد فيها فى ٩ سبتمبر ١٩٢١ لأسرة بسيطة يعمل عائلها فى زراعة أرضه، مرورا بدراسته بمدرسة المساعى المشكورة فى شبين الكوم، والتحاقه بالكلية الحربية فى ظرف تاريخى نادر، حين فتح مصطفى باشا النحاس، رئيس الحكومة، أبواب الجيش المصرى أمام أبناء الأسر المصرية المتوسطة والفقيرة، بعد أن كانوا محرومين من هذا الشرف لسنوات طويلة فى ظل الاحتلال، ليشارك الضابط الشاب بعد تخرجه فى كل الحروب التى خاضها الجيش المصرى ضد العدو الإسرائيلى، ما عدا حرب فلسطين ١٩٤٨، وكان وقتها فى بعثة خارج مصر.. ليتوج تاريخه بانتصار أكتوبر المجيد، وليقول عنه: «إنه أهم وسام على صدرى، وليتنى أحيا لأقاتل فى المعركة القادمة».

السادات استدعاه ليكون من بين مرافقيه وهو يرفع العلم المصرى على العريش يوم تحريرها

لم يفت القائمون على أمر مشروع «ذاكرة مصر» بمكتبة الإسكندرية أن يولوا اهتماما خاصا بحرب أكتوبر المجيدة وتاريخها ووثائق قادتها، وعندما شرعت المكتبة فى تجهيز الموقع العالمى الخاص بالرئيس السادات، كان من الطبيعى أن يسعى القائمون عليه إلى كل الشخصيات المهمة التى تقاطعت مع حياة وسيرة وتاريخ ومواقف الرئيس السادات، وارتبطت به سياسيا وإنسانيا.. وبالطبع عسكريا، بحكم أن أعظم إنجازات الرجل كان الانتصار العسكرى الذى حققته قواتنا المسلحة وهو قائدها الأعلى على الجيش الإسرائيلى.
تلقت المكتبة ١٣ مجموعة مهداة من تلك الشخصيات وعائلاتها، بداية من السيدة جيهان السادات وسيد مرعى، لكن تبقى المجموعات المهداة من القادة العسكريين من أبطال حرب أكتوبر لها أهمية خاصة وطابع مختلف.. من هؤلاء الذين أسهمت عائلاتهم بتزويد الموقع بما لديها من صور ووثائق: الفريق سعد الشاذلى، المشير أحمد إسماعيل، الفريق كمال حسن على، الفريق الماحى.. لكن كان لوثائق وصور المشير محمد عبدالغنى الجمسى مذاق مختلف. حكى لى عمرو شلبى، مدير موقع السادات ومؤسسه بمكتبة الإسكندرية، الذى بذل جهدا خاصا فى الحصول على هذا «الكنز» التاريخى، أنه أجرى اتصالا مع «مدحت الجمسى»، الابن الوحيد للمشير الجمسى، وهو الآن قد بلغ سن التقاعد بعد سنوات قضاها مديرا فى بنك «فيصل الإسلامى»، فوافق بلا تردد على أن يهدى ما لديه من صور ووثائق تخص والده إلى مكتبة الإسكندرية، وذهب عمرو شلبى مع فريق عمل إلى بيت الجمسى، حيث تولوا عمليات الفرز والتصنيف، ووصل عدد تلك الصور والوثائق إلى ٤ آلاف، تسجل تفاصيل التفاصيل عن مراحل حياة المشير الجمسى منذ طفولته وحتى خروجه للتقاعد فى أكتوبر ١٩٧٨ برتبة الفريق أول، وكان آخر من حمل لقب «وزير الحربية». لكن مجموعة الصور الأبرز والتى كانت تقع موقعا خاصا فى قلب الجمسى هى تلك التى التقطت له يوم ٢٧ مايو ١٩٧٩، حيث استدعاه الرئيس السادات ليكون بين مرافقيه وهو يرفع العلم المصرى على العريش يوم تحريرها، وارتدى الجمسى ملابسه العسكرية من جديد ومنحه السادات رتبة المشير، وهى الصور الوحيدة التى يظهر فيها الجمسى بتلك الرتبة المهيبة. وفى مقابل آلاف الصور التى أهدتها أسرة الجمسى للمكتبة يوجد فيديو واحد كان المشير الراحل يعتز به كثيرا، ويرى أنه من أصدق وأروع الحوارات التى أجريت معه، وقال فيه الكثير من أسرار حياته، وكان ذلك فى صالون الأوبرا الذى استضافه فى سنوات التسعينيات.
انتصر الجمسى على الجيش الإسرائيلى وأذاقه كأس الهزيمة المرة فى أكتوبر.. لكن المرض وحده هو الذى هزم الجمسى «روميل مصر» ليرحل فى ٧ يونيو ٢٠٠٣، ولكن ذكر، وذكرى، الجنرال النحيف المخيف سيظل خالدًا.