رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الست ماريا

جريدة الدستور

ماريا امرأة جميلة، كانت زوجة للقنصل الفرنسى فى الإسكندرية- أيام حكم الخديو إسماعيل- وكان يعمل فى فيلتها المواجهة للبحر- طباخ نوبى اسمه داود، ارتاحت له، ووثقت فيه، وأتمنته على أسرارها وممتلكاتها الخاصة، فتجالسه فى وقت فراغه فيحكى لها عن بلاده وأهله فيها.

لاحظت ماريا أنه يكثر فى الصلاة، تسمعه عند الفجر وهى فوق سريرها بجوار القنصل النائم وهو يردد آيات القرآن، يصلى، وتراه فاردًا مصلاة صغيرة فى المطبخ يصلى فى الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قالت له:
- أنت تصلى كثيرًا يا داود
ضحك قائلًا:
- يقولون إن كل دين النصارى صيام، وكل دين المسلمين صلاة
- عندك حق، الصيام فى المسيحية كثير جدًا
تأثرت ماريا بداود فطلبت منه أن يعلمها كيف يكون التوضؤ وكيف تكون الصلاة، فعلمها.
توضأت، وفردت مصلاته الصغيرة وصلت. ثم داومت على الصلاة دون علم زوجها القنصل، المسيحى المتشدد.
وفجأة صدرت الأوامر لزوجها بالعودة إلى باريس – للعمل بوزارة الخارجية فى منصب كبير. فأصرت ماريا على أخذ داود معها، قالت للقنصل:
- لا أستطيع السفر بدونه، فكيف سأتناول طعامًا من يد طباخ سواه؟!
فوافقها القنصل قائلًا:
- وأنا أيضًا ارتحت لطعامه
وسافر داود معهما
عمل القنصل الجديد يبعده عن البيت بالأيام الكثيرة، فتجلس ماريا بجوار داود، يسمعها آيات القرآن الكريم بصوته الجميل، حتى حفظت الكثير منها.
واشتد المرض عليها، بكى القنصل من أجلها، وابتعد داود فى المطبخ وبكى أيضًا.
بعد أن عاد القنصل لعمله، نادت ماريا:
- يا داود، يا دواد
فأسرع إليها، ركض على ركبتيه بجوار جسدها المريض، وأصغى لقولها:
- لقد اقترب الأجل يا داود، وأنت الوحيد فى فرنسا الذى يعلم إنى مسلمة.
مسح دموعه قائلًا:
- أعلم يا سيدتى
- فكيف أدفن فى مقابر المسيحيين؟!
ازداد بكاؤه، فهو مجرد طباخ غريب فى فرنسا، وبعد أن تموت ماريا، لن يكون له سند أو معين فى هذه البلاد.
- ساعدنى يا داود، لا أريد أن أدفن هنا.
جرى داود نحو المطبخ، وانكفأ على حافة المقعد وبكى بصوت مرتفع، سمعته ماريا، ودت لو مكنها الله للسير ناحيته لمواساته.
وماتت ماريا، حملوا جسدها ولفوه فى غطاء وأدخلوه صندوقًا فى المقابر.
تابع داود كل هذا وهو يبكى فى صمت. وعاد القنصل لبيته حزينًا، فاقترب داود منه قائلًا:
- سيادة القنصل، أريد العودة لبلادى.
قال القنصل:
- أعلم إنك ستطلب هذا، ومستعد لتنفيذه
مرت أيام حتى تمكن موظفو الخارجية من استخراج أوراق عودة داود لمصر. وفى الليلة الأخيرة له فى باريس. تسلل للمقابر ليلًا. لم يحس بخوف، سينظر لجسد ماريا لآخر مرة فى حياته، فقد فشل فى تنفيذ أوامرها بأن تدفن فى مدافن المسلمين، فهو مجرد طباخ فقير لا حول له ولا قوة.
يعرف داود مكان صندوق سيدته، هو واثق من مكانه، عد الصناديق المتراص بعضها فوق بعض، وفتح صندوقها فلم يجد جسدها، وجد جسد رجل مسن ملفوفًا فى عباءة خضراء غالية الثمن.
غضب وصرخ، فهو واثق أن ذلك هو صندوقها، فتحه ثانية فتأكد من وجود الوجه النحيف واللحية البيضاء. قال ربما أخطأت وفتحت صندوقًا آخر. ففتح كل الصناديق فلم يجدها، عاد لصندوق الرجل المسن، وخلع عنه عباءته الخضراء غالية الثمن، طواها بعناية، وحملها وعاد لبيت القنصل الذى سلمه أوراق خروجه من فرنسا.
عاش داود فى الإسكندرية بلا عمل، أكثر من الصلاة وقراءة القرآن، كانت ماريا تأتيه كثيرًا لا يدرى إن كانت تأتيه فى المنام أم فى الصحو، فهى تأتيه فى كل الأوقات، وجهها الأبيض الجميل يبتسم له.
لم يعد للطبخ، لزم مسجد سيدى خضر الأنصارى القريب من بيته فى آخر شارع فرنسا، كان يرى ضريحًا مجاورًا له، إنه ضريح الشيخ صالح عبدالله، كان ضريحًا فخمًا، أكثر ثراءً من ضريح الشيخ خضر الأنصارى – شقيق الشيخ جابر الأنصارى، وهما من صحابة الرسول.
يقولون إن الوالى عباس حلمى الأول، هو الذى أمر بإقامة هذا الضريح للشيخ صالح عبدالله، وأنفق عليه، فقد كان من رجاله ومقربًا منه.
تبددت أموال داود فاضطر أن يبيع أشياءه. حتى لم يتبق له سوى العباءة الخضراء التى أخذها من صندوق ماريا. فذهب بها لسوق الخيط ليبيعها.
تفحص صاحب الدكان العباءة فى دهشة قائلًا:
- من أين جئت بها؟!
- وما شأنك؟!، لو تريد شراءها، حدد الثمن
صاح التاجر غاضبًا:
-إنك سارقها بلا شك.
والتف باقى التجار حولهما، تفحصها أحدهم قائلًا:
- اقبضوا عليه، فهو نباش قبور، هذه كان ملفوفًا بها ميت.
ارتعش جسد داود، كيف علم الرجل بذلك السر
أمسكه صاحب الدكان من ملابسه قائلًا:
- سنسلمك للشرطة.
وشدوه فى عنف إلى مركز الشرطة
قال الضابط هناك وهو يقرأ حروفًا مكتوبة فى أسفل العباءة:
- إنها هدية للشيخ صالح عبداللـه من الوالى عباس حلمى الأول.
وقال آخر:
- ضريح الشيخ صالح عبداللـه موجود وملاصق لضريح الشيخ خضر الأنصارى
فقال صاحب الدكان:
- هيا لنكشف عن الضريح ونتأكد من وجود العباءة من عدمه.
لم يقل داود شيئًا. لم يستطع أن يقول إنه أخذها من صندوق كانت موضوعة فيه سيدته ماريا.
قال الآخر:
- قد نجد العباءة فى الضريح وينجو هذا الرجل من العقاب
ساروا جميعا حتى ضريح الشيخ خضر الأنصارى، كان العدد كبيرًا جدًا. وكلما دخلوا شارعًا أو حارة، ازداد العدد.
رفعوا العباءة الخضراء لأعلى، وطلت النسوة والأطفال من النوافذ، ووقف الرجال أمام دكاكينهم وعلى النواصى لمشاهدة هذا الجمع العجيب، رجل أسود يمسكونه ويجرونه أمامهم فى عنف.
دخلوا الضريح ورفعوا غطاءه، فاندهشوا مما رأوا، وجدوا جسد امرأة جميلة بيضاء، وجهها يشع نورًا ينير المكان. صاح الضابط مندهشًا:
- ما هذا، ما هذا؟!
وقال صاحب الدكان:
- إنها أجمل امرأة رأيتها فى حياتى.
أسرع داود نحو الضريح، فتراخت أيادى من يمسكونه، تركوه فاقترب أكثر، ونظر لأسفل، فصاح وهو يبكى فى صوت مرتفع:
- إنها سيدتى ماريا، إنها سيدتى ماريا..
ووقع على الأرض وأجهش فى البكاء، انحنوا ليحملونه، ربتوا ظهره فى أسى وخوف عليه.
حكى لهم ما حدث، منذ أن رأته ماريا يصلى وقرأ القرآن فى بيتها، أيام كان زوجها قنصلًا للإسكندرية.
وقال رجل آخر:
- أراد الوالى عباس حلمى الأول أن يصدر مشايخ البلد فتوى تبيح له الاستيلاء على أموال أسرته، بحجة أن محمد على - مؤسس الأسرة - عندما جاء إلى مصر، كان مجرد جندى فقير لا يمتلك شيئًا، وأموالهم هذه لا يستحقونها، كل المشايخ امتنعوا عن إصدار هذه الفتوى، سوى الشيخ صالح عبداللـه، فكان يريد الاستفادة من الوالى فأصدر فتواه.
وجاءت نسوة بحرى من كل مكان تزغرد، وتغنى للست ماريا، وللآن يحتفلون بمولدها كل عام.