رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فيلم "تقليص"..السينما ومشكلات العصر


في ظل الازمات الأقتصادية المتتتالية التي يشهدها العالم وتشهدها المجتمعات الغربية والعربية على حد سواء، وفي ظل موجات غلاء الأسعار واتساع الفارق بين المدخولات والمصروفات، تأتي السينما مثل كل الفنون والفلسفات التي تعني بطرح فرضيات تخص الواقع والمجتمع واللحظة الأنية التي يشعيشها الأنسان وتسير وراء تلك الفرضيات على استقامتها وصولا إلى نتائج ربما لا تحققها الدراسات الأقتصادية الجافة حيث يلعب الخيال دورا مهما في تأصيل الأسئلة التي تخص مستقبل البشر في ظل السياسيات الأقتصادية والاجتماعية التي تتغير يوما بعد يوم بسرعة كبيرة وبشكل عنيف.

قدم مخرج وكاتب الأوسكار أليكسندر باين فيلمه لعام 2017 بعنوان Downsizing  أو "التصغير"، من كتابته وإخراجه وإنتاجه، بفكرة جديدة وساخرة تركز على مواجهة الإنسان المعاصر والمتفهم لمشكلات كوكب الأرض لاكتشاف جديد من شأنه أن يطرح حلولاً جدية لمشكلات الانفجار السكاني وعلاج الأمراض المستعصية بأقل التكاليف؛ بالإضافة إلى إيجاد حلول اجتماعية واقتصاددية لحياة أفضل، وذلك عن طريق خضوع المواطنين لعملية جراحية تستطيع تصغير حجم الإنسان إلى ثلاثة بوصات، وبذلك يستهلك ملابس أصغر مقاسًا وكميات طعام أقل، بل ويعيش هؤلاء الصغار في منازل فاخرة يدفعون مقابلها  أسعار بخسة، فيحاول بول سفرانيك/ مات ديمون، المتخبط في حياته المهنية  والاجتماعية والراغب في توفير حياة أفضل، إقناع زوجته أودري/ كريستان ويج بأن يقوما بالخضوع للعملية الجراحية التي سوف تغير حجمهما لكي تتلائم مع العيش في مدينة فاضلة جديدة مخصصة للإنسان الصغير أطلق عليها Leisure land  أو أرض الرفاهية، توافق أودري على اقتراح بول زوجها في خوض هذه التجربة الفريدة، فيعرض بول منزل وأثاث عائلته للبيع ويتجهان إلى المدينة الفاضلة؛ ومن أجل عملية التقليص يخضع بول لعملية لحلاقة جسده من شعر رأسه حتى قدميه مع خلع الأسنان الأصلية من الفك وكذلك زوجته؛ ولكن عندما ينته بول من الإجراءات الطبية يبحث عن زوجته ليجدها قد رحلت ولم تتحمل حلاقة شعر رأسها وأحد حاجبيها فغادرت قبل حلاقة الحاجب الآخر. يجد بول نفسه وحيدًا بحجم جديد وفي مدينة غريبة.

عندما تتمعن في تفاصيل الحياة اليومية لشخوص تلك المدينة من جيران بول وزملاء عمله الجديد تجد انه لم يرتقي إلى أفضل مستويات العيش، ولكن تواجهه المشاكل نفسها التي واجهها حينما كان بحجمه الطبيعي، نكتشف ان مدينة الرفاهية ليست المدينة الفاضلة المنتظرة، لكنها تحتوي بدورها على مناطق عشوائية يسكنها الفقراء والمشردين والمهاجرين غير الشرعيين. يتضح ان المجتمع الأميركي تم نقله بعنصريته وتعنته ضد الأقليات من الولايات الأميركية إلى مدينة الرفاهية المخصصة للصغار، أو قل إن مدينة الرفاهية ما هي إلا مجتمع مصغر للحياة في الولايات. لم يكن هذا المشهد الوحيد الذي يظهر من خلال أحداث الفيلم ردا على امال المواطنين الواسعة بحياة افضل من خلال تساؤل هام جاء على لسان الشخص السكير في إحدى الحانات التي قرر الزوجان أن يحتفلان بآخر أيامهما بحجمهما الطبيعي على طاولاتها، حيث يتساءل السكير معترضًا على اختراع التصغير هذا بسؤال عن إن تصويت الشعب الصغير ينبغي أن يعول على عدد أقل من الناس العاديين وإن قضية عدم المساواة هذه لا يمكن لها أن تثار أبدًا؛ على الرغم من أن هذه الفرضية ستشكل طريقة فريدة لمعالجة الصراعات في العالم الحقيقي، على سبيل المثال، قيمة العملة تستحق أكثر للشعب الصغير بسبب انخفاض تكلفة المعيشة، ولكن هل سيحصل الناس الصغار على نفس الأجر الذي يدفعه الأشخاص الذين لم يتم تقليصهم؟ هل يجب أن يتقاضون رواتبهم كاملة؟ هل سيكون من الأصعب حقًا تقليص حجمها عندما يبدو وكأن جميع المواد والسلع - بما في ذلك الماشية والخشب والأقمشة- قد خفضت أيضًا؟. كان من المنتظر الإجابة على هذه الأسئلة أو على الأقل أن يتعدد الأشخاص الذين يتساءلون الأسئلة نفسها؛ ولكن تم بتر المشهد والاقتصار على دققيقتين فقط من وقت الفيلم الذي تجاوز وقته 130 دقيقة لم يتطرق من خلالهم إالى مناقشة مصير الاختلاف الذي حدث في المجتمع ما بين الشعب الصغير والآخر العادي.

هناك نقطة تبدو الغرض الأساسي والفكرة الرئيسية للفيلم، ألا وهي إنقاذ الأرض والنجاة من الانفجار السكاني واستهلاك الموارد الطبيعية ومن بعدها محاولة إصلاح بيئي ومحاولة النجاة من انهيار الجبال الثلجية تحت وطأة تسرب غاز الميثان التي ظهرت عن طريق البروفسور جورجان/ رالف ليسجراد الرجل الابيض مكتشف عملية التصغير، والتي سببت له الشعور بالذنب والانعزال في موطنه النرويج مبتعدًا عن عالم الصغار ومتفرغًا لاختراع جديد ينقذ البشرية من الهلاك.

لم يحظى هذا الفيلم وقت عرضه بقراءة نقدية وتحليلية تربطه بالاوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالشكل الذي يستحقه مما يعكس غياب الوعي بقيمة وجدية السينما في تناول المشكلات التي تواجه انسان العصر الحديث رغم ان السينما هي اكثر الفنون ارتباطا بروح هذا العصر.