رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المجالس العرفية


شاءت الظروف أن أحضر جلسة عرفية، من تلك المجالس التى يتم فيها التحكيم بين قريتين، حدث بين أفرادهما نزاع. ولأن القريتين فى الصعيد، وفى كل قرية عائلات قوية لديها أسلحة، ولوجود مصالح مشتركة بين أهالى القريتين، ولا يمكن لقرية منهما الاستغناء عن المرور فى زمام القرية الأخرى وبين بيوتها، فقد اقترح البعض أن تلجأ القريتان للتحكيم العرفى. وقد تمت الاستعانة بمُحكمين من قرى مجاورة متاخمة للصحراء تتميز بالطابع البدوى، وقد تبرع واحد من أثرياء إحدى القريتين بذبح بقرة، وقام بدعوة أهالى القريتين لوليمة طعام، تمت خلالها إجراءات المجلس العرفى. وكانت نتيجة التحكيم مرضية، لأن القريتين متناظرتان من حيث موازين القوى.
المجالس أو الجلسات العرفية، عبارة عن لجان مُصالحات، تُشكل فى مراكز الشرطة لوضح حد للخصومات الثأرية أو حتى لحل المشكلات المدنية، وتتم بطريقة فلكلورية، بمقتضاها يحمل القاتل كفنه، ويتقدم لولى القتيل ويعطيه كفنه، فيقول الولى: «عفوت عنك». غير أن النزاع بتلك الطريقة لا ينتهى ولا ضمان لانتهائه.
جاءت المجالس العرفية فى مصر مع الفتح الإسلامى لمصر، من الجزيرة العربية ومن ثم نقلت عنهم هذه العادات البدوية، حيث لم تكن هناك قوانين بهذه المنطقة إطلاقًا، وتدفقت قبائل عربية كثيرة لمناطق مصر بجنوب الوادى، وانتشرت فيما بعد بالمناطق البدوية والحدودية والريفية. وذلك قبل أن توجد قواعد قانونية ملزمة للناس، عندما كانت قبيلة تُغِير على قبيلة أخرى، فكانت تلجأ إلى المجالس العرفية لبحث أسباب هذه الإغارة ونتائجها وإعادة الأمور إلى حالتها الطبيعية، لكن بظهور الدولة والقوانين، التى يلتزم الجميع بتنفيذها، وعلى الرغم من ذلك؛ فإن كثرة المشكلات والنزاعات حاليًا جعلت البعض يلجأ إلى المجالس العرفية، بعيدًا عن السلطة الرسمية؛ الشرطة والمحاكم، كانت الجلسات العرفية أو جلسات التحكيم العرفى، متواجدة فى المحافظات الحدودية والصحراوية، حيث يغلب على السكان الطابع القبلى، وكانت لقوة العائلة القدرة على إلزام أطراف الخصومة بالخضوع لتلك الجلسات.
وقد استمدت تلك المجالس حجيتها من العرف، والعرف يعتبر من مصادر القواعد القانونية ولا يتعارض مع الدستور، كما أن الحكم العرفى مُلزم طالما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية والدستور، ورغم وجود نظام قضائى مستقر فى مصر منذ مئات السنين، فإن المسئولين يلجأون للجلسات العرفية، متجاهلين أن ما كان يصلح فى الزمان الغابر وقبل نشأة القضاء فى مصر، لم يعد صالحًا الآن.
فى الجلسات العرفية يفرض الجانب الأقوى شروطه على الأضعف، فى ظل موافقة وترحيب من جانب مسئولى الأمن، الذين يهمهم الهدوء وليس العدل، وهو ما يزيد من القضية إضعافًا، ونتيجة لبطء الإجراءات الأمنية والقضاء، يقبل المواطنون سواء الجانى أو المجنى عليه، بمثل هذه الجلسات والابتعاد عن الطرق الرسمية والقانونية لإنهاء الخلافات بين العائلات طرفى النزاع.
فى المجالس العرفية المصرية لا مجال للطعن أو الرفض أو التأجيل. فالحكم واجب النفاذ دون تأخير!. ودائمًا ما يغيب الجانى أو الفاعل، ويتنحى القانون جانبًا، وتضيع هيبة الدولة، والأخطر من ذلك- وعلى الرغم من أن مصر دولة قانون- أن مؤسسات الدولة تكتفى بالمتابعة والمشاهدة فقط دون أى إجراء قانونى يحد من انتشار هذه الظاهرة وترك الأمور لمواطنين تحكمهم القبلية أولًا قبل احترام وسيادة القانون، ولا يعالج جذور القضية، وربما تقضى تلك المجالس بارتكاب جريمة، تحت سمع وبصر المسئولين عن الأمن، وهى جريمة إبعاد الخصم، من أمام الخصم الآخر، خصوصًا إذا كان الخصم ضعيفًا ولا يقوى على حماية نفسه، فيتم القضاء بإبعاده لمنطقة أخرى، ويعطيه الحكم مهلة لبيع البيوت والأرض.