رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شركات الإخوان أم إخوان الشركات؟


مما لا شك فيه أن الاقتصاد ورأس المال، كان هو الهاجس الذى شغل ذهن البنا منذ أن قام بالتوقيع بالحروف الأولى مع المخابرات البريطانية على عقد تأسيس جماعة الإخوان، وكان المقابل الأول الذى تقاضاه لإنشاء شركته الإرهابية، هو مبلغ خمسمائة جنيه، كما يعلم الجميع.
كان الرجل يدرك أنه بالمال يستطيع أن يفعل أى شىء، يستطيع ذات يوم أن يحكم، فالدارس لتاريخ حسن البنا يعلم أنه كان طموحًا غاية ما يكون الطموح، وكان يعد نفسه ليكون ملكًا ذات يوم، ليس ملكًا على مصر فحسب، ولكن خليفة للمسلمين.
لذلك دعا حسن البنا أعضاء جماعته إلى فتح الشركات والاعتماد على العمل الحر، ووضع خلاصة فكرته الاقتصادية أو بالأحرى تعليماته فى رسالة التعاليم التى أثارت فيما بعد قدرًا كبيرًا من الجدل والتى نشرها فى مجلة الإخوان قائلًا: «لا بد أن يزاول العضو عملًا اقتصاديًّا مهما كان غنيًّا، وأن يقدم على العمل الحر مهما كان ضئيلًا، وأن يخدم العضو الثروة الإسلامية بتشجيع المصنوعات الوطنية، فلا يقع قرشه فى يدٍ غير إسلامية». وكان من الطبيعى أن يستجيب له كل الإخوان وكان إمامهم البنا حين أسهم وأسهموا منذ منتصف الثلاثينيات فى إنشاء عدد من الشركات مثل: شركة الإخوان المسلمين للغزل والنسيج بشبرا الخيمة، شركة الإعلانات العربية، الشركة العربية للمناجم والمحاجر، وهى شركة متخصصة فى إنتاج الأسمنت والبلاط، شركة التجارة وأشغال الهندسة لإنتاج مواد البناء وتدريب العمَّال على الحِرَف اليدوية كالسباكة والكهرباء والنجارة وباقى الحرف الأخرى، شركة المعاملات الإسلامية وقد قامت هذه الشركة بإنشاء مصنع للنحاس وآخر للبلاط والأسمنت، وآلاف الأفدنة الزراعية التى كانت تشكل فى هذا الزمن أكبر استثمار، وغير هذه الشركات والمدارس والأراضى العديد من المشروعات الأخرى وعشرات المحلات التجارية، والتى يصعب حصرها وعدّها والتى كانت تغل للإخوان ثروة ضخمة جعلت من الجماعة إمبراطورية اقتصادية كبرى تناطح كبرى المؤسسات الاقتصادية، ومعها بالطبع إذاعة أهلية وبعض الصحف والمجلات التى كان تشكل الجناح الإعلامى لهذا الكيان.
من أجل هذا لم يكن غريبًا أن يعارض الإخوان فى بدايات ثورة يوليو، قانون «تحديد الملكية الزراعية». فهذا القانون سيقف حجر عثرة أمام ركن ركين من أركان اقتصاديات كبار الجماعة وكبار ملاك الأراضى الزراعية الذين يتبركون «بالإخوان»، ولعل أحدًا لم ينتبه إلى أن جماعة الإخوان لم تعلن منذ بدايتها ومن خلال مرشدها الأول ورسائله أنها لا تتخذ موقفًا رافضًا لكبار مُلاك الأراضى الزراعية، إذ كانت تستفيد منهم حينما تحصل منهم على زكاة أموالهم وصدقاتهم توجهها لشراء مقرات الجماعة، لذلك وقفت جماعة الإخوان بكل قوة أمام قوانين الإصلاح الزراعى، الأمر الذى أثار الخلافات بين الجماعة ورجال الثورة، وحينما تعددت الخلافات وفقدت الجماعة القدرة على الرؤية الوطنية الواضحة دخلوا السجون، وحين خرجوا فى بداية السبعينيات وفى حكم السادات خرجوا وهم يحملون فى أنفسهم ثأرًا استثمره السادات، ولكنهم عادوا إلى حلم الثروة مرة أخرى.
وحين تمددت رقعة التنظيم للإخوان فى نهايات السبعينيات، استطاعت الجماعة حل معضلة كبيرة فى نمو أى تنظيم سياسى، وهى مشكلة التمويل، إذ إن كل تنظيم سياسى يحتاج بلا ريب إلى مصادر تمول له أقسامه ولجانه وأنشطته التى يقوم عليها نشر أفكاره، وإذا كان المجتمع المصرى قد استقبل فى الثمانينيات وفى فترة بدايات حكم مبارك، شركات توظيف الأموال الإسلامية وفتح جيوبه لها فى ثقة متناهية، ذلك أنه لم يدر بخلد أحد من هؤلاء البسطاء، أن هذه الشركات تتاجر بالشعار الإسلامى دون أن تعمل به، إلا أن جماعة الإخوان لم تكن بعيدة عن تلك الشركات، بل إنها كانت فى قلب الحدث الاقتصادى القائم على توظيف الأموال من خلال شركات إخوانية تعمل وفقًا لتوجيهات من مكتب الإرشاد، وكانت شركات الشريف والحجاز من هذه الشركات التى خلفت وراءها مآسى ومذابح مالية أقيمت على نصب مكتب الإرشاد.
ثم ظهر فى أفق الإخوان شخصيتان اقتصاديتان من الطراز الأول هما خيرت الشاطر وحسن مالك، وعلى أيدى هذين الرجلين انتقلت الجماعة إلى مرحلة أخرى هى «مرحلة المليارات» كانت بداية خيرت الشاطر وحسن مالك عندما قاما بتأسيس «شركة سلسبيل لنظم المعلومات»، وقطعا شوطًا كبيرًا فى مجال تقنيات المعلومات والحاسب الآلى، وعندما تنبهت الحكومة المصرية للسطوة الاقتصادية لهذه الشركة قامت بالقبض على الشاطر ومالك ومعهما آخرون، على ذمة القضية التى عرفت بقضية سلسبيل، ثم تمت مصادرة الشركة وأموالها فيما بعد، وحين خرج الشاطر ومالك من سجنهما بعد أشهر قليلة بحثا عن أنشطة اقتصادية أخرى، ورغم حبس الشاطر فيما بعد فى قضية عسكرية لمدة خمس سنوات لم يخرج منها إلا عام ٢٠٠٠، إلا أن حسن مالك كان يعمل على قدم وساق وقام بتأسيس عشرات الشركات بأموال الجماعة وكانت شركة «استقبال» للأثاث هى كبرى شركاته، وفى غضون عام ٢٠٠٧ ظهر اسما خيرت الشاطر وحسن مالك فى قضية غسيل الأموال الشهيرة، ليتصدر الاثنان قمة الهرم الاقتصادى الإخوانى باعتبارهما من أكبر رجال الأعمال فى الجماعة والأكثر تحكمًا فى مصادر تمويلها محليًا.
وقد استطاعت لجنة التحفظ على أموال الإخوان وضع يدها على بعض وليس كل الأموال التى تمتلكها الجماعة ويديرها اقتصاديوها، ومن خلال الحصر الدقيق لما تم التحفظ عليه، تمت مصادرة شركات ومؤسسات ومدارس ومستشفيات بمليارات الجنيهات، ورغم أن هذا الجانب المالى من ميزانية الإخوان يعتبر يسيرًا بالنسبة للميزانية الإجمالية، إلا أنه كان ضربة مؤثرة وقوية لهذا الكيان، ومع هذا فإنه إذا كان معظم أموال الجماعة داخل مصر أصبح ظاهرًا أمام العيان، إلا أن الجزء الأكبر من ثروة الإخوان ما زال مختفيًا فى الخارج، فعبر سنوات طويلة تكونت للإخوان خبرة تراكمية فى إدارة المال، ومن خلال هذه الخبرة استطاعت الجماعة استعادة العلاقة بالأسواق الخليجية والتركية، وقامت بفتح شركات جديدة من الشركات عابرة القارات ومشاركة رجال أعمال فى تلك الدول ممن لهم علاقة جيدة بأعضاء بالجماعة، كما تمت إعادة توجيه استثمارات الإخوان فى شراء أسهم فى شركات خارجية وضخ أموال الجماعة فى استثمارات كبرى فى لندن وأمريكا وشنجهاى وماليزيا وإندونيسيا، هذا غير افتتاح مشروعات جديدة فى قطر وباكستان. ولكن كل هذا قد يبدو ضئيلًا للغاية أمام التعاون الاقتصادى الكبير بين الإخوان ودولة تركيا، وقد كان لحسن مالك الدور الأكبر فى إدخال جماعته إلى تركيا، حيث قام بالتعاون مع رجال أعمال بالحكومة التركية واتحاد رجال الأعمال والصناعيين المستقلين «الموصياد» الذى صار الآن الذراع الاقتصادية لحزب أردوغان الحاكم، ويتحكم حاليًا فيما يقارب ١٥٪ من الاقتصاد التركى، للإخوان فيها ما يقرب من ٥٪.
يبدو أن مقولة البعض بأن الإخوان يستطيعون إعادة تمويل أنفسهم مرة أخرى رغم المُصادرة التى حدثت. فالأموال المخفية للجماعة داخل مصر، وأموال التنظيم الدولى فى الخارج تجعلهم الرأسمالى الأكبر فى تاريخ مصر، بل قُل فى تاريخ المنطقة العربية كلها.