رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لندن.. حكاية الرمادى العتيق

جريدة الدستور




لندن
مَنْ يصدقُ
خطوات من أتبع من الراحلين قادتنى إلى هنا
من إطلالة غرفتى على التايمز بلونه المخضوضر الداكن
أراقب الذاهبين والعائدين من Bank street
يتحركون فى خفةٍ وسرعةٍ مدهشين فى ملابسهم الرسميةِ
صدفَ أننى أقمتُ فيقلب لندن بعدَ الحداثى
حيث كل الألوان والوجوه واللغات فى حراكٍ سريعٍ مستمر
باستثناء هؤلاء الإنجليز الضخام ذوى الوشوم الكثيفةِ ينظرون للجميع فى ريبةٍ واستياء ويبتسمون فى تكلفٍ
الفتاة التى كانت تدخن خارج مقرِّ عملها
أبدت اندهاشًا منزعجًا حين سألتها
لم تشر لمحطةِ القطار على الجانبِ الآخر من الطريق
ربما لأننى حدقتُ فى أناملها الممسكةِ بالسيجارةِ وقتا أطولَ مما يجب
وربما لأننى كما يبدو
تائهٌ متطفلٌ غريب
لا يستطيعُ قراءةَ إشارات الشارع البسيطةِ
ليستدل على الطريق.

صباحُ مطيرٌ جديد
المطر الخفيفُ يراودُ الروحَ
رحلةٌ جديدةٌ
مغامرةٌ جديدةٌ
فى قلب المدينةِ الرماديةِ الصامتةِ
المطرُ ينعش القلبَ
ويردُّ الروح
لترى بشرًا يغنون على الأرصفةِ
وآخرين يمنحون أنفسهم للبهجةِ
المطر الخفيف
فى المدينةِ الرمادية الباردةِ
فى الصباح الذى لم تظهر شمسه بعد
يثبت ببساطةٍ لغريبٍ مثلى
أن الرمادىَّ قناعٌ وهمىٌ
يخفى وراءه ألوانًا صاخبة.

الطفلُ الذى يمشى بصعوبةٍ
خلع له والدُهُ ملابسَه وأطلقه
يلاعب الماء المتدافق من نافورة «هالام سكوير» الراقصةِ
الطفلُ الذى يضحك ويجرى ويخترقُ الماءَ ويلاعبه
هذا الطفلُ
وهؤلاء الأطفال جميعًا الذين لحقوا به مترددين قبل أن تأخذهم الحماسةُ ويهزمون البرودةَ والماء
هؤلاء الأطفالُ الضاحكون
هم بلا شكًّ
صانعوا الألوانَ القادمين.

فى «Canary Wharf»
البناء الزجاجى المعدنى الضخم يلمع من بعيد
ويبدو محصنًا ضدَّ الغرباء
ولا بدَّ أن تعبرَ له ممشى معدنيًا خاصًا
تراقبك على جانبيه الكاميراتُ
غير أنه على مسافاتٍ لا تزيدُ على بضعةِ أمتار
أو بضع درجات من سلّم
توجدُ آلةٌ موسيقيةٌ
بيانو أو جيتار
يقولُ لك ببساطةٍ
«اعزفنى.. فأنا لك
من فضلك
اصنع منى أنغامًا جديدة للحياة»
المبنى المعدنى الزجاجى الضخم الذى بلا قلب
يحمل سقفه بامتداد مئات الأمتار طولًا وعرضًا
غابةً كاملةً من النباتات والأزهار
بكلِّ الروائحِ والألوان
ودائمًا دائمًا
ثمةَ موسيقى شخص ما
تنبعثُ فى الجوار.

السيدةُ العجوز التى تعبرُ الطريق
الرجلُ المتكئُ على عصاه
النساء اللواتى يقفن فى طابورِ الشراء
هؤلاء الذين يبتسمون لك فى المصعدِ
الإخوةُ من أصحابِ البشرةِ البيضاء
لم يبدوا لى أنهم يكرهوننا حقًا
أزعمُ
الأمر كله
أن بعضَ بنى آدم مجرمون بالفطرة.

أصوات الأجراس القريبةِ
ابتسامات الندّلِ وموظفى الفندق
والإطلالة الصباحية على المطر اليومىَّ
يغسل عن الوجودِ ليلةً
ويبدأ نهارًا جديدًا
هذه الحوائط والأحجار المعشوشبة بالخضرةِ وطحالب الماء
هذا الإحساس الفائق بالتدفقِ والتبدلِ والاستمرار
كلُ هذه السحابات الثقالِ التى تأتى وتروحُ فى مداعبةٍ لا نهائيةٍ للشمس
هذه البلادُ التى ليست لنا
كانت حنونةً معنا أكثرَ كثيرًا مما ظننا
لم تتجهم كثيرًا فى وجوهنا