رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محفظة الإخوان المليارية.. الوطن البديل للتنظيم


-هناك تقديرات صدرت مؤخرًا تشير إلى أن استثمارات التنظيم الدولى للإخوان تقدر بـ180 مليار دولار موزعة على نحو 48 دولة

المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وفيما يخص تنظيمات العمل السرى والإرهابى يظل المال هو الدماء التى تغذى الشرايين، والهواء الذى تتنفسه القيادات لضمان حياة البنين والأتباع.
تنظيم الإخوان منذ تأسيسه ومرشده الأول حسن البنا يؤمن بهذا المفهوم تمامًا، وظل يعمل على ضوء هذا الإيمان طوال سنوات شغله منصبه التأسيسى. ومنه انتقل كقاعدة صارمة لكل قيادات الرعيل الأول للتنظيم، خاصة أن الأيام والأحداث أثبتت لهم صحة تلك العقيدة، فدون المال لا يوجد تنظيم.
لذلك لم يكن سرًا أن كل لقاءات البنا مع من راهن على تأييد واستخدام تلك الجماعة الناشئة، بدءًا من سفارة المحتل البريطانى، مرورًا بكل من تم خداعهم من ملوك وأمراء الدول العربية والإسلامية، وزعماء قبائل وعشائر فى بلدان كانت تحت سلطات احتلال أجنبى حينها، من الذين بهرتهم تلك الدعوة لبعث الخلافة الإسلامية. جميعها شهدت قبل الحديث فى الدين ومتطلباته، سؤالًا حاكمًا لم يغب عن ألسنة المرشد ورسله حينئذ، حول ما سيقدمونه من دعم للتنظيم، كى يمكنه الاضطلاع بدوره المأمول منه. تنوعت أشكال الدعم وتفاوتت، ما بين أموال مباشرة كمبالغ مندوب الاستخبارات البريطانى، التى لم تقف عند حد الـ«٥٠٠ جنيه» المشهورة تاريخيًا، وهى ما تسبب انكشافها فى الانشقاقات الأولى إبان المرحلة التأسيسية للتنظيم، لمن ظنوا أنهم بصدد عمل دينى ودعوى خالص. آخرون كان المطلوب منهم من أشكال الدعم إفساح المجال ورعاية شراكات تجارية واستثمارات لأموال، تحقق الاستفادة من أسواقهم الناشئة، وهذا نمط شهده العديد من البلدان الخليجية والعربية.
عندما اختبر هذا الجيل تدفقات الأموال وأثرها فى عمل الجماعة، خاصة مع البدء فى سن وتفعيل اللائحة المالية للتنظيم، التى ألزمت كل عضو أن يدفع من (٧-١٠٪) من إجمالى دخله للجماعة، ويظل أمين الصندوق هو المسئول أمام «مكتب الإرشاد»، عن استثمار هذه الأموال فى «أنشطة حلال» بالأسواق التجارية، لتحقيق فوائض مالية، تبين بعد إضافة التبرعات السخية أن هذه الآلية كفيلة بامتلاك نهر عريض من التدفقات، لا يحتاج سوى الوقت ليشق طريقه ويستوى عوده، لصناعة شبكة مالية معقدة هى «مكمن السر»، حتى على أعضاء الجماعة ذاتهم.
هذه الشبكة وتلك الأنشطة «الحلال»، لم تتحول إلى إمبراطورية حقيقية إلا عندما عبرت البحر إلى الشاطئ الآخر. حيث انفتحت لها الأراضى البريطانية بعد حرب ١٩٥٦ نكاية فى الرئيس عبدالناصر، وتبعتها ألمانيا الغربية سريعًا، ليتحول الارتكاز الأوروبى فى تاريخ التنظيم، وهو مرحلة نقل النشاط المالى إلى الطابع المؤسسى، القادر على النفاذ بالدفع التجارى والاستثمارى، وفق منظومات الأسواق التى يعمل بها. وسريعًا ذاق التنظيم طعم «البنوك الإسلامية» الناشئة، وأبحر وراء شركات «الأوف ور» والملاذات الضريبية الآمنة. ليصير خلال عقدين من الزمن يمتلك محفظة مالية هائلة، تمتد من إندونيسيا شرقًا إلى أقصى الغرب حيث جزر الباهاما والعذارى وبنما، وغيرها مما تم الكشف عنه مؤخرًا، أثناء سعى الأجهزة الأمنية والضرائبية وراء الشركات مجهولة الملاك، وذات الأنشطة المتعلقة بغسيل الأموال والتهرب والغطاءات.
هناك تقديرات صدرت مؤخرًا، تشير إلى أن استثمارات التنظيم الدولى للإخوان تقدر بحوالى «١٨٠ مليار دولار» موزعة على نحو ٤٨ دولة. وهو رقم قد لا يثير الدهشة كثيرًا على ضخامته، بالنظر إلى بنك واحد من البنوك الذى امتلكها التنظيم، وهو «بنك التقوى» الذى أسسه وأداره «يوسف ندا» لعقود. استطاع خلالها أن يمتلك ـ البنك ـ أموالا وشركات وفروعا فى ٢٥ دولة، قبل أن يصدر له قرار من مجلس الأمن الدولى بغلقه وتجميد كل نشاطاته حول العالم، بعد توجيه اتهامات له بضلوعه فى تمويل الإرهاب «القاعدة» بعد اعتداءات ١١ سبتمبر ٢٠٠١. بعد تلك الضربة الهائلة، التى استطاع التنظيم استيعابها رغم ضخامتها، توسعت الجماعة فى آلية استخدام المتعاونين حول العالم، من أجل إخفاء استثماراتهم تحت أسمائهم ونشاطهم. فى تلك الحقبة نشط التنظيم فى مناطق «الملاذات الضريبية» الآمنة، وظل من تاريخ ٢٠٠١ وحتى سنوات مضت يستخدم الشركات العابرة، ويوظف «شركات المحاماة» المتخصصة فى توفير الغطاءات القانونية التى تحول النشاط غير المشروع إلى كيانات لامعة قادرة على النفاذ والعمل بحرية، فى نشاطات الاستثمار العقارى وبورصات الأسهم والعملات والمعادن، والمضاربات التى تتم على مدار الساعة فى أركان العالم الأربع.
بعد أن خرجت للنور كل من «وثائق برادايز» و«وثائق بنما»، بدأت الأسماء ذات الارتباط بجماعة الإخوان تطفو على السطح، بانخراطها العميق فى هذا النوع من الاستثمار «المظلم». لكن سرعان ما بدا الأمر فى حقيقته، على درجة عالية من صعوبة تقويضه، أو توجيه اتهام لأشخاص وكيانات بعينها فى جرائم محددة. خاصة أن ملاك أو مديرين تلك الأموال، سرعان ما ينفذون «خروجًا آمنًا» معدًا سلفًا من قبل «شركات المحاماة»، مثل تلك التى داهمت الأجهزة الأمنية الدولية التابعة للبنوك المركزية، مقار البعض منها، كما حدث مؤخرًا مع شركة «موساك فونيسكا» فى بنما. لكن يظل الأصعب فى هذه الحالة والحالات المشابهة أن الخروج المرتب، يتمثل فى تنصل من يمكن الإمساك به وبأطراف نشاطه، من كل الأموال والممتلكات فى سهولة فورية. تمامًا كما حدث وقت إعلان «إفلاس» بنك التقوى، الذى بمقتضاه بدا فى يوم وليلة، وكأن كل أموال البنك وممتلكاته فى «٢٥ دولة» قد تبخرت فى الهواء!.
هذه الشبكة الهائلة، ذات الأفرع والأذرع الدولية. التى انخرطت فى نشاطات متنوعة تم الكشف عن بعضها، فى الضربة المصرية الأخيرة لتلك المنظومة المعقدة، حيث تُعد الأولى من نوعها رغم صدور قرارات مصادرة سابقة، لكنها ظلت جزئية لم تضرب ـ مثل هذه المرة ـ عصبًا حقيقيًا للتنظيم. يمثل له ولأعضائه، من خلال هذا التشابك والامتدادات، الوطن الحقيقى للجماعة. فتلك المحفظة التى يعيشون فى ظلالها ويعملون داخل أروقتها، دومًا يثبت أنها البديل لأى جنسية يحملونها.