رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. محمود عزمى.. رائد حقوق الإنسان فى مصر


سجل لنا الأستاذ «هانى نسيره» السيرة الرائعة للدكتور محمود عزمى فى كتابه الصادر عام ٢٠١٦ ضمن سلسلة «مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان»، فكتب يقول: وُلد الطفل محمود عزمى عام ١٨٨٩ فى قرية صغيرة بمركز منيا القمح- شرقية.. تلقاه والده بالرعاية منذ الصغر فحفظ بعض القرآن، وتعلم القراءة والكتابة، ثم انتقل مع والده، حيث كان يعمل ملتحقًا بالمدرسة الابتدائية فى بعض المحافظات، ثم انتقل إلى المدرسة التوفيقية الثانوية- القسم الأدبى، وكان يود بعد انتهائه من الثانوية أن يلتحق بدراسة الطب، ولكن لم يكن هذا ممكنًا له، فالتحق بمدرسة الحقوق مصادفة.
فى عام ١٩٠٨ سافر فى بعثة جامعية إلى باريس مع ابن عمه د. سيد كامل، د. محمد حسين خليل، د. منصور فهمى، والشيخ مصطفى عبدالرازق. حيث التقى شريكة عمره ورفيقة فكره ونضاله «كلارا عزمى». وفى باريس تفتحت عينا عزمى أكثر، وسمع دروسًا عن الفصل بين الدين والعلم، وكان أول ما تبينه فى باريس وجامعتها هو إقبال الطلبة على التحصيل والعلم بروح ملأها الرغبة الصادقة والنشاط الكبير والإخلاص الأكيد، وقدرتهم على التوازن بين الاستمتاع بمناهج الحياة مع الصرامة فى تحصيل العلم.
ثم ناقش عزمى رسالته للدكتوراه بالفرنسية حول «زوجات النبى» ودرس الاقتصاد السياسى والشئون الدولية خلال ٤ سنوات (صيف ١٩٠٨- ربيع ١٩١٢م)، وقد ارتبط عزمى أثناء وجوده فى باريس بجمعية «مصر الفتاة»، وارتاد تجمعات المثقفين ومنابر الإبداع هناك ثم عاد مرتبطًا بالحزب الوطنى- الذى أسسه الزعيم مصطفى كامل- وكاتبًا فى جريدته «العلم» التى كان يحررها شقيقه على فهمى كامل، ثم عمل بمدرسة التجارة حتى سنة ١٩١٩، وترك الخدمة بالحكومة ليتفرغ للعمل العام والصحافة.
عزمى اعتاد التقلب والثورة والاستقلال منذ احتراف العمل العام، بدءًا من اعتقاله أثناء عمله بمدرسة التجارة أو إصداره عددًا من الصحف وتركه العمل مع البعض الآخر عند اختلافه مع أصحابها مبدئيًا «كما حدث مع (الجهاد) لمحمد توفيق دياب أو (السياسة اليومية) حين اختلف مع محمد محمود باشا».
لم يكن عزمى تابعًا لأحد، رغم ارتباطه بمجموعة الأحرار الدستوريين فى ثورة ١٩١٩ مختلفًا مع سعد زغلول، ثم لم يلبث أن انتقد محمد محمود على صفحات «السياسة اليومية» حين عُطل الدستور عام ١٩٢٨، ولم يكن تابعًا لـ«على ماهر»، رغم تقديره له وتوليه مسئولية مستشاره الإعلامى، خاصة فى علاقته السياسية مع القصر والإخوان. كما لم تأخذه رغبة الانطلاق الصحفى ومهنيته من طبيعته المفكرة المستشرقة لآفاق بعيدة، فأسس لحرية الصحافة واعتبارها السلطة الرابعة، كما ظل مناضلًا من أجل حقوق المواطنة والدعوة لحقوق الإنسان وتحديث المؤسسات التعليمية فى مصر والدفاع عن الحريات وحقوق المرأة بالخصوص.
عزمى كان أول من استحدث مفهوم «الصحفى البرلمانى» سنة ١٩٢٤ حين عمل مندوبًا برلمانيًا لجريدة السياسة.. يصف أهم ما يجرى فى البرلمان، كما كان يُعد أبرز الصحفيين المصريين فى متابعة الأحداث والشئون الدولية.
فى سنة ١٩٣٦ سافر إلى العراق، حيث عُين عميدًا لكلية الحقوق فى بغداد، وقد أطلق عليه الرصاص من طالب عراقى مختل عقليًا كان يقصد أحد أساتذته، وكان عزمى مريضًا بالسكر فتأثر كثيرًا ثم عاد إلى مصر بعد عام، تولى عمله فى الصحافة حتى عام ١٩٣٩، إذ تولى إدارة المعهد العالى للصحافة، وفى عام ١٩٤٠ انتُدب مديرًا لقسم التشريع والمباحث فى مصلحة الضرائب، كما عمل سنة ١٩٤٤ ببعض الهيئات الدولية، إذ عُين خبيرًا بلجنة الضرائب الدولية التابعة لعصبة الأمم، كما اُختير بصفته الشخصية فى لجان حرية الأنباء وحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، كما عمل لمدة عام أثناء الحرب العالمية الثانية مديرًا للرقابة على المطبوعات ولم يتحمل العمل وتركه بعد قليل وظل بالصحافة، بعد ذلك عمل محررًا بجريدة الأهرام حتى عام ١٩٥٣ إذ اختاره الرئيس عبدالناصر ليكون رئيسًا لوفد مصر فى الأمم المتحدة حتى وفاته فى نوفمبر ١٩٥٤م.
أسهم فى توجيه السياسة الإعلامية لعدد من الصحف: جريدة «المحروسة» التى تولى تحريرها منذ أكتوبر ١٩١٩، جريدة «الاستقلال» التى أصدرها فى مايو ١٩٢٠، جريدة «وادى النيل» التى استأجرها هو وتوفيق دياب من صاحبها محمد أحمد الكلزة فى سبتمبر ١٩٢٨، روزاليوسف اليومية التى تولى رئاسة تحريرها منذ عددها الأول الصادر فى ٢٥ فبراير ١٩٣٥، جريدة «الشباب» الأسبوعية التى تولى تحريرها منذ ١٧ فبراير ١٩٣٦. وكانت جميع هذه الصحف- عدا روزاليوسف- مستقلة عن الأحزاب. كما أصدر مجلة «الجديد» وجريدة «العالم العربى» فى باريس سنة ١٩٣٣ وقد اهتم بقضايا: الدفاع عن حرية الرأى والتعبير، تحديث مصر عن طريق الدعوة لتطوير التعليم والمساواة بين المرأة والرجل ومدنية القوانين وحقوق الأقليات ومواجهة الاستبداد وحكومة الفرد، التعريف بمنجزات الحضارة الغربية خاصة فى المجال القانونى والاجتماعى والثقافى.
فى ٣ نوفمبر ١٩٥٤- أثناء رئاسته الوفد المصرى الدائم فى الأمم المتحدة- وقف يرد بحماس شديد على مزاعم إسرائيل بشأن حادثة السفينة «بات كاليم» التى احتجزتها السلطات المصرية، ومن شدة حماسه ووطنيته الصادقة فاجأته أزمة قلبية توفى على إثرها، فكانت وفاة جديرة بمواطن مصرى صادق. لقد كان بالحقيقة «مفصلًا كلمة الحق باستقامة.. مخلصًا لوطنه حتى النفس الأخير»، مقدمًا بذلك قدوة طيبة لأجيال كثيرة آتية من بعده، وسيظل اسمه تردده الأجيال من جيل إلى جيل.