رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خلع الجبة والقفطان ليصبح موسيقار الأزمان


كما توقعت، لم يسمعه أحد. لكن هذا طبيعى جدا. تاهت ذكراه فى صخب الأغنيات الركيكة، المتشابهة، المكررة، التى تلوث آذاننا بالقبح النشاز، والمنتشرة فى الإعلام، انتشار الذباب، أو حصار النمل الأبيض.
يوافق ١٥ سبتمبر ٢٠١٨، الرحيل ٩٥، للشيخ سيد درويش، المولود فى ١٧ مارس ١٨٩٢.
هذا الشاب الإسكندرانى، الثورى، الطموح، المعجون بالموسيقى، تتدفق من كل مكان فى جسده.. موهبة استثنائية، مصنوعة من ذهب، تتساقط منه أينما ذهب.
اسمه «سيد درويش البحر»، وعند «البحر»، كان مولده. وهو فعلا، ابن البحر الوفى، الذى أخذ من الأمواج عنفوانها، وطزاجتها، ومن اللون الأزرق سحر الشجن.
أحدث ثورة، فى الموسيقى العربية، شكلا ومضمونا.
لم يخاصم التطريب، والارتجال، والزخارف، لكنه التزم بالتعبير البسيط عن اللحن.
قلب المسرح الغنائى رأسا على عقب، وجدد فى جميع ألوان وقوالب الغناء.
امتزجت ألحانه بالروح الوطنية المتمردة، وأول منْ دعا المرأة إلى النهوض، وترك الخضوع والاستسلام على أنغام الموسيقى.. حملت موسيقاه أصوات كل الفئات والشرائح، والطوائف.. وسافر بعاطفة الحب إلى آفاق جديدة.
أدخل الموشحات والموسيقى الكنسية فى نسيج اللحن.. عشق الموسيقى الإيطالية، خاصة الأوبرا.. أول منْ استخدم آلات الأوركسترا الغربية فى الموسيقى العربية.. خلع الجبة والقفطان، ليصبح الشيخ المودرن، المزروع فى التربة المصرية، والعصرى فى رؤيته وأمنياته.
سيد درويش، بحق، أستاذ كل الأجيال المتلاحقة. لقد زرع حديقة واسعة، تنبت فيها مختلف أنواع الورود والأزهار، وليحظى بعبيرها كل واحد، حسب موهبته، وطاقته.
وحينما سألوه عن غزارة ألحانه، وتمكنه من جميع أشكال الغِناء قال: «أقدر كمان ألحن الجورنال».
إن محمد عبدالوهاب ١٣ مارس ١٩٠٢ – ٤ مايو ١٩٩١، نفسه الذى نعتبره فخر موسيقانا العربية، يعترف بكل بساطة، وتواضع «أنا درويشى حتى العظم».
اعتزم سيد درويش، السفر إلى إيطاليا، ليتقن أصول التلحين للمسرح الغنائى. وفعلا استطاع أن يجمع مبلغا من المال، مقابل بيع نصيبه فى بيته بجزيرة بدران.
ذهب عند أخته ليقيم فى الإسكندرية. وكان مشغولا فى إنهاء تلحين نشيد وطنى لطالبات المدارس، احتفالا بعودة سعد زغلول، من المنفى، وتقول: «مصرنا وطنّا سعدها أملنا».
وفعلا، عاد سعد زغلول من المنفى، وغنت له الطالبات نشيد الاستقبال. وفى وسط المشاعر الوطنية المتأججة، لم يكترث أحد بجنازة يمشى فيها أربعة أشخاص فقط. وكانت جنازة سيد درويش.
وحتى اليوم، لا يزال موت سيد درويش، فى ١٥ سبتمبر ١٩٢٣، وهو فى عمر ٣١، يثير الغموض.
التفسير الرسمى، هو سكتة قلبية، نتيجة جرعة زائدة من المخدرات. والتفسير الثانى، هو اغتيال الشيخ سيد، بالسم، لانخراطه فى الحركة الوطنية، وأغنياته الثورية التى يرددها الناس فى مكان.
وتطالب عائلته وبعض الباحثين، والمؤرخين، بإعادة ملف التحقيق وتحليل جثته، باستخدام تقنية الحمض النووى، للتأكد من سبب الوفاة.
أغنياته كلها تحرك القلوب، والعقول. وهذا من دلائل النبوغ. لكننى أحب جدا «أنا هويت وانتهيت».. «والله تستاهل يا قلبى»..
«ضيعت مستقبل حياتى»، «شد الحزام على وسطك».. «سالمة يا سلامة»... «القلل القِناوى».. «ده وقتك ده يومك يا بنت اليوم»..
«قوم يا مصرى».. «أنا المصرى كريم العنصرين».. «الشيطان» التى تعد أقصر أغنية فى تاريخ الموسيقى العربية.
أما أغنية «أهو ده اللى صار»، فإننى لا أسمعها إلا ويرتعش جسدى. واللحن الساحر «زورونى كل سنة مرة»، يحولنى إلى كتلة من البكاء، والشجن.
ولا نغفل نشيد: «بلادى بلادى»، موسيقى السلام الوطنى. حينما أرى الناس، يقفون إجلالا لنشيد الوطن، أعتقد أنهم فى اللحظة نفسها، يقفون إجلالا، لسيد درويش، صانع اللحن الوطنى. وفى هذا عزاء، له ألف دلالة.
فى ١٥ سبتمبر، أحتفل وحدى بالشيخ سيد درويش، وأقول له: «يا سيد درويش البحر، لا تحزن.. لا كرامة لنبى فى وطنه.. وأنت باق خالد بالضبط مثل البحر».