رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وصف مصر بالجريمة في «90 دقيقة» «2»


فى الجزء الأول من المقال، كانت الإشارة لاهتمام برنامج «٩٠ دقيقة» على قناة المحور بمتابعة ظاهرة تزايد معدل حدوث الجرائم وتجدد أشكالها فى ربع القرن الأخير، وتنوع مخاطرها عبر تخصيص عدة حلقات رائعة من البرنامج لمناقشة تلك الظاهرة من كل جوانبها ومخاطر تبعاتها مع أهل الاختصاص.. وهنا أطرح سؤالى حول التراجع النسبى لدور المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية الرائع الذى كنا نتابع أنشطته بكل شغف باعتباره جهة بحثية مرجعية.. أين هو ونخبة باحثيه من متابعة تلك الظاهرة؟.
لعلى لا أكون مبالغًا لو أكدت أن قرار إنشاء «المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية» من قبل أولى حكومات ثورة يوليو ١٩٥٢ هو من أهم وأروع القرارات ذات العلاقة بدعم الأمن القومى، والذى يشير إلى تنبه متخذ القرار مبكرًا إلى أهمية وجود مثل تلك المراكز البحثية فى مراحل التحول الاجتماعى والاقتصادى التى قد تصاحبها تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية مؤثرة فى تغيير المناخ العام للشارع وانعكاس ذلك على تركيبة المواطن المصرى الإنسانية والنفسية والثقافية.
أنشئ المركز كمعهد للبحوث الجنائية عام ١٩٥٥، يستهدف نشاطه النهوض بالبحوث العلمية التى تتناول المسائل الاجتماعية المتصلة بسائر مقومات المجتمع، والمشاكل التى يعانى منها المجتمع المصرى؛ وذلك بغرض وضع الأسس اللازمة لسياسات اجتماعية رشيدة تنهض بالمجتمع وتحقق رقيه. وللمركز فى سبيل تحقيق أهدافه أنشطة رئيسية تتعلق بإجراء البحوث والدراسات والإشراف عليها، وإبداء الرأى فى مشروعات القوانين الخاصة بالمسائل الاجتماعية والجنائية. ويضم المركز ثلاثة أقسام لبحوث: الاتصال الجماهيرى والثقافة، وقياسات الرأى العام، والتعليم والقوى العاملة. وتضم هيئة البحوث بالمركز مائة وخمسة وعشرين من المستشارين والخبراء الأُول والخبراء والباحثين والباحثين المساعدين.
وكان المركز قد عودنا فى الحقبة الأخيرة وحتى قيام ثورة يناير على خروج مجموعة رائعة من الباحثين به للإعلام برسائل ثقافية وتنويرية وعلمية شفافة حول القيم الإيجابية والسلبية التى باتت عليها أحوال مجتمعاتنا الشمالية والجنوبية وانعكاسات ذلك وفق مؤشرات واقعية، بالإضافة لإنتاج إصدارات بحثية مرجعية مهمة تقدم خدمات جليلة لشباب الباحثين، وأيضًا لمتخذ القرار، ولمؤسسات المجتمع المدنى العاملة فى حقول العمل الاجتماعى والإنسانى.. كنا نتابع أحدث إصدارات المركز عبر أى معارض للكتاب بشغف.. ماذا حدث؟.. أم أن هناك أنشطة لا تخرج للإعلام أم هى حالة تراجع فى آليات نظم إدارية قلصت حركة الانفتاح على كل مؤسسات الدولة صاحبة المصلحة الحقيقية فى نمو عمل تلك المؤسسة البحثية الرائعة؟.
تذكرت دور مركزنا القومى الرائع، ومصر تشهد، للأسف، حالة زيادة عددية فى إحصائيات الجرائم المرتكبة، تطور نوعى أنتج صيغًا جديدة أو مستوردة لم نكن سابقًا نشهدها فوق ساحتنا، فالعقد الأخير حمل أنواعًا من جرائم لا نجدها فى سجلات الجرائم التى رصدناها على امتداد عقود سبقت، وإذا كانت الزيادة العددية تعزى لأسباب عديدة تأتى فى مقدمتها الزيادة السكانية التى رافقتها عوامل اقتصادية أفرزت عللًا اجتماعية دفعت لزيادة حالات اضطرابات النفس، إلا أن هناك أسبابًا أخرى يمكن رصدها لتكون من أسباب زيادة وتطور أنواع الجرائم التى ما عادت تغيب عن ساحتنا وصرنا نطالع نماذج منها بمعدلات يومية، ولقد بدا واضحًا أن الاجتياح العالى لقيم العولمة التى لم تقدر بقعة فى عالمنا من الإفلات منها، ومثّلت سببًا من أسباب الزيادة والتطور فى حراك الجريمة ليس فوق ساحتنا فحسب، بل على امتداد ساحات العالم التى يمكن أن نرى فوقها نماذج متشابهة من أنواع جرائم تُرتكب، بحيث لم تعد هناك جريمة ما، وقفًا على ساحة مجتمع ما من مجتمعات العالم اليوم.
حول كتاب رائع صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب «وصف مصر بالجريمة خلال ربع القرن» للكاتب الصحفى الحريف والمخضرم الأهراماتى «نبيل عمر» التقيته فيه عبر حلقة لبرنامج أقدمه على هواء الموقع الإلكترونى البارز «الأقباط متحدون» أكد الكاتب ارتفاع معدل الجريمة بشكل ملحوظ عقب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ وبالتحديد عقب أحداث ٢٨ يناير وانسحاب الشرطة من الشارع، وحسب بيانات وزارة الداخلية كان الارتفاع ما بين ١١٠٪ فى جرائم الحرق العمد إلى ٣٥٠٪ فى جرائم السرقة بالإكراه، مرورًا بالقتل والخطف والاغتصاب وهتك العرض، وكان متوسط الارتفاع ٢٠٧٪. كان ذلك طبيعيًا ومتوقعًا بعد اقتحام ما يقرب من ٣٥٪ من الأقسام والمراكز على مستوى الجمهورية والاستيلاء على الآلاف من أسلحة الشرطة، وهروب أكثر من ٢٢ ألف مسجون من عتاة المجرمين، وإخلاء سبيل آلاف المعتقلين جنائيًا وسياسيًا تنفيذًا لإلغاء قانون الطوارئ، ناهيك عن تهريب الأسلحة على نطاق واسع من ليبيا التى تفككت، كل ذلك صب فى الشارع المصرى، فقلبه رأسًا على عقب. وهذه البيئة المنفلتة حرضت على دخول مجرمين جدد إلى الساحة، حتى إن وزارة الداخلية أعلنت أن ٦٥٪ من الجرائم ارتكبها جناة جدد لأول مرة، وبالطبع ليس لهم سجل جنائى ولا تتوافر عنهم أى معلومات، ويصعب مطاردة من لا يترك أثرًا دالًا عليه.
وكشفت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية عن إحصاءات صادمة للجريمة عقب الثورة المصرية، حصلت عليها من وزارة الداخلية، وأظهرت الأرقام تضاعف حالات الخطف بهدف الحصول على فدية والسطو المسلح وسرقة المنازل، إضافة إلى سرقة السيارات وجرائم القتل. قالت الجريدة إن «البلطجة» تحولت إلى «مهنة» تملك قوة وعتادًا لبث الخوف فى نفوس الآمنين.
يرى الكاتب أن الجريمة قد تكون هى الانعكاس الأصدق التى يرى فيها أى مجتمع نفسه، إذ يقف أمامها بلا ورقة توت تستر عوراته، ولا خيابات الهروب من تناول الواقع بشفافية، ولا بتزوير براءات الأمن والأمان الكاذبة، نعم إنه لا يوجد مجتمع يخلو من الجريمة، لكن شكل الجريمة وتنوعها وأدواتها وأساليبها وطرائق ارتكابها ووسائل مكافحتها وإنزال العقاب بمرتكبيها تختلف من مجتمع إلى مجتمع، وتبيان حجم الجزء المتعفن فيه وتداعياته على بقية هذا المجتمع. لى أمل أن تدعم وزارة الثقافة والعديد من مؤسسات الدولة ذات العلاقة آليات عمل المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، ونحن فى مرحلة نتحدث فيها عن إعادة بناء المواطن، والتحالف مع كل أصحاب الأدوار المهمة والفاعلة لتطوير الخطاب الثقافى والإعلامى والدينى لمجابهة كل قوى الشر الباغية الجاهلة ورسائلهم المضللة من خارج وداخل البلاد.