رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اعترافات خاصة جدًا لـ«بلبل»

جريدة الدستور

عبدالنور خليل واحد من أهم شيوخ الصحافة الفنية، عاش عمرًا مديدًا فى كواليس الحياة الفنية يعرف نجومها وأسرارها، ولا يتوقف عن المتابعة والرصد والكتابة..لمع اسمه فى الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، حاور النجوم وأصدر كتبًا مهمة، بينها كتابه عن السندريلا سعاد حسنى، وكتابه المرجع عن المشايخ الذين أسسوا دولة الغناء.. من الشيخ سلامة حجازى إلى الشيخ سيد مكاوى.
لا تفارق الابتسامة وجهه ولا السيجارة شفتيه ولا الأفكار المشتعلة دماغه.. وبتراكم السنين لم يكن عبدالنور خليل مجرد صحفى فنى له وزنه، بل صار صديقًا للنجوم ويرتبط معهم بعلاقة إنسانية وثيقة.
وفى حالة «بليغ» لم يكن عبدالنور خليل مجرد صديق، بل زميل «تختة» فقد جمعتهما فصول الدراسة فى مدارس شبرا الثانوية، وذكريات سنوات الشقاوة والصبا، ثم سنوات فى الوسط الفنى.. وبحكم هذه العِشرة كان عبدالنور خليل هو الوحيد الذى ذهب إلى «بليغ» فى باريس فى عز محنته.. والوحيد الذى رصد بدقة حياة «بليغ» فى سنوات الغربة الطويلة.
كتب عبدالنور خليل عن «بليغ فى المنفى» حلقات غاية فى الأهمية، وتعد بمثابة وثيقة عن تلك التجربة المؤلمة فى حياة «بليغ»، وتأتى أهميتها من كونها شهادة حية لصديق مقرب من «بليغ»، سافر إليه فى منفاه وعاش معه التجربة وكتب عنها.. ونتصور أن تلك الشهادة تقدم أسرارًا جديدة عن تلك الفترة «المظلمة» من حياة بليغ حمدى.
هنا ننشر مقتطفات من هذه الشهادة قبل أن ننشرها كاملة.

بليغ لـ«عبد النور خليل»: وردة مستفزة بشكل كامل.. ومشكلتها أنها لا تجد حولها ناصحًا له رأى قيم
التفت إلىّ بليغ، وهو ما زال يجلس على مقعد أمام «الأورج» وسألنى:
- ماذا جرى بين الناس ووردة فى مصر؟.. إنها غاضبة وتقول لى إن الصحفيين والكُتّاب انهالوا عليها لومًا وتقريعًا مجرد أنها أعطت ظهرها للمتفرجين.
قلت لبليغ:
- وردة خانها الذكاء.. المناسبة وهى «ذكرى تحرير سيناء» ولم تكن تحتمل «الهزار».
ويرد بليغ:
- لست أدرى ماذا أصابها.. حتى عندما كنا زوجين.. كنت أحاول أن أرقق طباعها فهى مستفزة.
قلت:
- يقولون إنها أخرجت لسانها للجمهور، وأعطته ظهرها، بينما حلمى بكر يقود الفرقة الماسية وهى تعزف لحنه الذى غنته وردة.. أنا أعتقد أن مشكلة وردة الحقيقية أنها لا تجد بجوارها من يخلصها من رغبة الاستفزاز الدائمة عندها.. ولا تجد حولها الآن ناصحًا له رأى قيم.
ويعود بليغ فيستدير إلى الأورج ويعزف جملة موسيقية ثم يقول لى:
- إننى ألحن لها الآن أغنية جديدة.. لقد جاءت منذ فترة وأخبرتنى أنها تنوى العمل فى السينما لتمثل فيلمًا جديدًا. لكن الضجة التى أحدثتها بتصرفها فى العريش تخيفها، وتترك عندها اعتقادًا بأن الناس يحقدون عليها.
قلت:
- لا يا بليغ.. وردة مشكلتها الأساسية فى غياب مجموعة من الأذكياء يحيطون بها ويفكرون لها ومعها، وفى تصورى أن حكاية العودة إلى السينما لن تزيد على أغنية تلحنها أنت وتسجل على شريط يُباع.
وقال بليغ:
- هذا صحيح.. فطالب الأغنية والمُصر عليها هو محسن جابر لأنه يتعجل إكمال شريط لوردة.
قلت:
- لقد غنت لك مؤخرًا.. فى عيد الشرطة المصرية على ما أعتقد.
قال:
- نعم.

سألت زكى بدر: «لو عدت إلى مصر.. ماذا تفعل بى؟».. فرد: «اللى ربنا يقدرنا عليه»
شرد بليغ حمدى بأنظاره إلى جدار الصالة، التى عليها تمثال عازف الناى، وثمة انفعالات قوية تدور فى حسه ووجدانه.. وتنهد بقوة وهو يقول لى:
- أنا متردد فى العودة إلى مصر.. أخاف مما قد يحدث لى، أنا بالفعل كما تلاحظ معتل الصحة وقد سبق وأرسلت لك أوراق المستشفى وتشاخيص الأطباء وكلها تؤكد أننى فى حاجة إلى علاج دائم.. وعندما أرسل لى إبراهيم موسى كلمات النشيد الذى غنته وردة فى عيد الشرطة، اتصل بى اللواء زكى بدر- وزير الداخلية المصرية وقتها- أكثر من مرة يستعجل الانتهاء من اللحن.. كان بعض الكلام غير مناسب للمعنى الذى قصدته من لحنى.. كان معنى ما أريده باللحن أن يترك الإحساس عند الجماهير بأن رجال الشرطة منهم وبهم.. إخوتهم وأولادهم وبناتهم أيضا، وهم ساهرون على أمنهم وراحتهم، يضحون بأرواحهم من أجلهم وليسوا أعداء أو أدوات قمع.. وقلت للواء زكى بدر، وزير الداخلية، إننى أحتاج إلى تغيير بعض الجمل فى النشيد الذى كتبه إبراهيم موسى.. وقال لى غير زى ما يعجبك بس خلص لنا اللحن. وانتهى اللحن، وسافر إلى القاهرة مع «نوتة» لكى تجرى عليه وردة البروفات مع أحمد فؤاد حسن.. لقد تعودت الآن أن أضع على النوتة الموسيقية علامات خاصة بالموسيقيين والعازفين وفؤاد حسن يفهم هذا عنى وينفذ لى كما أريد، وغنت وردة اللحن.
سألت بليغ:
- ألم تسأل اللواء زكى بدر، وزير الداخلية، ماذا يمكن أن يحدث لو أنك عدت إلى مصر الآن؟
وأجاب بليغ:
- وجهت السؤال على محمل الفكاهة. قلت للواء زكى بدر لو أننى طاوعت نفسى ولبيت شوقى وحنينى إلى مصر وعدت، ماذا تفعل بى؟.. وضحك وزير الداخلية وهو يقول لى: العمل عمل ربنا يا بليغ.. تعالى أنت واللى يقدرنا عليه ربنا نعمله.

عمرو دياب لا يصلح مطربًا.. على الحجار الصوت الوحيد الصالح لكنه أضاع نفسه بغباء.. لا أحب محمد ثروت.. ونجاة ركبها الوسواس
حكى لى بليغ أن عبدالوهاب أرسل له شريط أغنيته «من غير ليه» ثم حادثه أكثر من مرة بالتليفون وهو مبهور بالنجاح الذى حققته الأغنية.. ويقول لى بليغ:
- إن عبدالوهاب لم يكن يتصور أن تنجح الأغنية فى أوساط الشباب إلى هذا الحد، فالذى نراه على ساحة الأغنية الآن فى مصر شىء «مقرف»، لقد أصبح «المغنى» سبوبة يتكسب منها «الصيع» والذين لا حرفة لهم، وكل من هب ودب أصبح فى إمكانه أن يكون مطربًا، وكل تاجر أصبح يجد فى شرائط الأغنيات تجارة لا تخضع للضرائب.. هذا المطرب الذى يقولون إنه يجلس اليوم على عرش الغناء فى مصر.. اسمعه على ما أعتقد عمرو دياب، جاءنى به فى البداية لكى أسمعه وأعطيه لحنا.. وسمعته وقلت يا ابنى أنت لا تصلح مطربًا، والمطرب محمد ثروت أيضًا قلت له: أنا لا أستطيع أن أقدم لك لحنًا لأننى لا بد أولًا أن أحبك حتى أعيش مع صوتك.. وأنا لا أحبك ولهذا لا يمكن أن ألحن لك.. أين على الحجار؟.. إنه الصوت الوحيد الصالح للغناء بين كل هذا الزيف.. لماذا لا يغنى؟ قالوا لى إنه أضاع نفسه بغباء وانغلق على نفسه، وأضاع جهده فى نشاطات فرعية مثل المسرح والتليفزيون على اعتبار أنه ممثل لا مطرب.. فى رأيى أن صوت على الحجار هو أصلح الأصوات الغنائية الآن فى مصر.. وأنت تذكر معى أغنية «عدوية» لمحمد رشدى كنت أبحث عن سكة جديدة للغناء، وكان من الضرورى وجود الصوت الصالح الذى يستطيع أن يسير فى هذه السكة ويصل الناس فهو من منابعهم وجذورهم، وبه يمكن أن ترد إليهم شخصيتهم الأصلية.. وكان تقديرى فى مكانه، وبدأت به موجه ما سمى غناء الفولكلور أو الأغنية الشعبية.. كان له كتّابه بعدها.. الأبنودى.. حمزة.. مجدى نجيب.. عبدالرحيم منصور.. وسار غيرى بعدى فى هذا الاتجاه.. ومن المحزن حقًا، أن تغمر ساحة الأغنية الآن فى مصر هذه الموجة من الإسفاف، وأن كل من أراد أن يغنى يختار لحنًا أجنبيًا ليركب عليه كلامًا غريبًا لا يمكن أن يحمل معنى واحدًا راقيًا.. هل يمكن أن تتخيل أغنية تبدأ بألفاظ غريبة سوقية مثل «هوب لا.. هوب ها».. أفهم أن يدخل المطرب الحقيقى أغنية بموال مثل «صياد نزلت أصطاد صادونى» أما هذا اللغو، وهذه التشنجات الموسيقية العنيفة التى تصاحبه، وكأننا فى غابة تعوى فيها كل أصناف الحيوانات مرة واحدة لا يمكن أن تكون غناء.. لهذا فرحت عندما غنى عبدالوهاب من جديد.. طربت رغم أننى سمعت اللحن منذ سنوات بصوت عبدالحليم حافظ.. وفرحت أكثر عندما جاءتنى أخبار نجاحها ورواجها فى أسواق القاهرة.. خاصة كما يقول عبدالوهاب فى أوساط الشباب الذى كان غارقًا فى هذا اللغو الذى يطلقون عليه صفة الغناء.. حدثنى عبدالوهاب وحدثته عبر التليفون وتبادلنا الأفكار والخواطر.. وحكى لى، وشكا لى ما به، وقلت له لا بد أن نشارك فى عمل ضخم ووافق.. قال لى إنه سيأتى فى شهر يوليو الحالى إلى باريس لكى نتفق ونتعاون.. أين نجاة؟ لماذا انقطعت عن الغناء، لقد وعدها عبدالوهاب بأغنية جديدة ولا زالت تنتظر، ولن تغنى إلا بعد سنوات أخرى من الانتظار، كانت الحجة القديمة هى أن «وليد» ابنها صغير ويعيش خارج مصر، ولا بد أن تسافر لتكون قريبة منه لكى ترعاه، وقد كبر وليد وصارت نجاة جدة.. ومع هذا فهى شبه معتزلة.. لا أغانى جديدة ولا سينما ولا تليفزيون.. إن نجاة تحب أن تعتزل.. تسكن حجرة واحدة من شقتها.. هى حجرة نومها، وتنعزل عن الناس وتغطى أرض الشقة بالورق حتى لا يدخل أحد من الباب.. آخر تجاربى مع نجاة كانت على يدك.. فى مسقط. منذ أكثر من عشر سنوات، تجمعنا كلنا فى العيد العاشر للسلطان قابوس.. كنت معها وكان وجدى الحكيم وهانى مينا وفرقته، وفرقة رضا وحسين كمال.. كان المفروض أن تمثل نجاة مسلسلا تليفزيونيًا يخرجه حسين كمال ومعها مجموعة كبيرة من الأطفال، وكان علىّ أن ألحن أغانى المسلسل وأشرك الأطفال فى الغناء معها.. يومها راهنتك على أن هذا المسلسل لن يكتمل.. يومها كنت شديد الحماس لنجاة، وكنت متحمسًا للمشروع، وكنت تدخل إلى المركز الصحفى لكى تحصل على تليفون دولى ونستعمله كلنا ويجلس وجدى الحكيم أمامه بالساعات.. وعندما انتقلنا إلى قطر لكى نبدأ تسجيل الأغانى وتصوير المسلسل ملت على حسين كمال بعد اللقطة الأولى وقلت له: نجاة لن تكمل تصوير هذا المسلسل؟ لماذا؟.. لأننى أعرف نجاة، مجرد أن ظهر حولها مجموعة من الأطفال أشركتهم فى الغناء، واختارهم «حسين كمال» حسنى الوجوه، ركبها «الوسواس» واعتقدت أن الناس ستتفرج على الأطفال.. وستسمع غناءهم ولن تلتفت إليها.. وهربت من إكمال المسلسل.. ولا زالت مدينة بالأجر الذى تقاضته منه.