رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأسايطة

الروائي عادل سعد
الروائي عادل سعد


سمع الأخوان بغرق مركب بضائع فى نيل أسيوط. البضائع مؤمّن عليها.. لم تجد شركة التأمين جدوى من استخراجها.. عرض مندوب التأمين المركب بكل محتوياته وهو غارق فى النيل بمبلغ ٤٠ جنيهًا

محمد على باشا كان منزعجًا من تناقص أعداد المصريين بالكوليرا والطواعين، وطلب من الطبيب الفرنسى كلوت بك أن يساعده على زيادتهم.
كان إذا اعتنى بالأرض لا يجد جندًا، وإذا أسرف فى عدد الجيش افتقدت الأرض من يزرعها.
جورج خياط لم يكن حاكمًا ولا باشا.. لكنه كان يبحث عن حل آخر.
استأجر ٢٨ من موارنة لبنان ووعدهم ببناء كنيسة للموارنة بـــ٢٨ قبة فى دير الجنادلة بالغنايم إذا استقروا فى أسيوط.
كان الشيخ سليم يقرفص على حافة البحر الكبير عاريًا منذ خمسين عامًا.. والنواتية يلوحون لرؤيته عند المرور على ساحل سليم، ولا يمعنون فى تأمل عورته لاتقاء الشر ونوال البركة.
وخياط يحدّق فى النهر طوال الليل والنهار.
النيل كتاب ضفتاه صفحات.. وكان خارجًا من قراءة وتعلَّم درسًا.
ناظر دائرة إقليم أسيوط المعلم يعقوب حنا الصعيدى هلك منذ نصف قرن.. انفرط جيش المسيحيين المصريين.. يعقوب أخلص للجنود الفرنسيس، نصارى مثله يرفعون راية الصليب، عاش عمره ضد كهنوت الكنيسة المصرية وترانيم قساوستها الموتى، وكان يدخل الكنيسة بعد أن نال من القائد كليبر رتبة أغا راكبًا جواده وشاهرًا سلاحه.. حارب الأتراك وهزمهم بشوارع أسيوط فى معركة المنشية.. سارى عسكر القبط جمع ثمانِ مئة من شباب القبط من أقاصى الصعيد، وحلق لحاهم وزيّاهم بزى مشابه لعسكر الفرنساوية.. وأمام الجنرال ديزيه أثبت جدارته، وقاد قواته لاقتحام حواجز أسيوط وهزم المماليك فى معركة «عين القوصية»، لكن جنود جيش الشرق رحلوا.. وقُتل ملطى وأنطوان أبوطاقية وبرتميلى فرط الرمان الذى أحرق سليمان الحلبى قاتل كليبر خليفة بونابرت.. ولن يرحمه أحد.. مع الجنود المنسحبة هرب الجنرال يعقوب، داهمه الإسهال، غشيت الحرارة جسده.. على البارجة الإنجليزية بالاس اشتدت الحمى، وقذفوه إلى البحر.
من سيوط خرج نبى الله إدريس، رابع أحفاد آدم، طاف بالدنيا، وعلّم كل شعب حرفة تناسب أرضه ليأكل، علَّمهم الصيد والزراعة والرعى والنجارة والنسيج والبحر قبل أن يصعد على سلم السماء ولا يعود.
وجاء من بعده السيوطى أفلوطين ليتعلم على يديه حكماء اليونان.. وعيسى ابن مريم طفلًا، وعاد من سيوط نبيًا لأرض فلسطين.
خياط المطرود من الكنيسة كان يبحث عن مسيح جديد يمشى على الأرض.
ونيافة الأنبا أبشوى كان مشغولًا بعلم آخر.
خادم كنيسة دير المحرق صام طويلًا لينحت عروسًا كبيرة من العجوة، عمودها الفقرى من نوى البلح.
المحب للنساء والمحروم، عاش دهرًا يتخيلها داخل القلاية، رسم عينيها ورموشها ودوران نهديها، ولف خصرها وليونة ردفيها وساقيها، وطاف على بطنها، حتى لان دافئًا كالعجين الخمران.
ولما عابثها بسحره ونفث نهضت تتأود كنخلة ضاحكة لتخدمه وتحبه وتغنى وترقص.. عجوة.. حلاوتها من تمر الجنة، ولا تقارن بأشباح صُنعت من النار أو عجين الطين..ولما افتتن الناس بجمالها، واستعصت عليهم فهمًا واغتصابًا.. حاولوا قتلها.. لكنها كانت لا تموت.
أبشوى وحده كان يعرفها، ولما حاصره الآباء الكهنة غافلها، كانت نائمة آمنة فى حضنه، ومد يده نحو بطنها الدافئة وسحب نواة بلح من سرتها، فتداعت أركانها بين ذراعيه وهى تنظر إليه بعد أن اغتالها راضية.
خرج على الناس مغمومًا يبكى.. لم يعد قادرًا على رؤية التمر الذى يحبه، ولا ملامسة الهواء الذى كانت تشغل فراغًا فيه.. خلع القلنسوة عن رأس نصف أقرع وطاف حافيًا بين البيوت أشعث عاريًا.. وقتلوه.
وفى أسيوط المسيح جاء.. رآه بعض العارفين قرب منطقة الحمراء عند الغروب يمشى على ماء النهر.
وطرد بقطر ويصا ولديه.
تاجر الخردوات الفقير رجع إلى البيوت النائمة تحت الطين بحارة «الرب والزيت» بغرب البلد، وألقى ذريته من زوجته الأولى سارة خارجًا، وأغلق الباب واستراح.
عاد الابن الأكبر «حنا»-١٢ عامًا- بعد يوم حافل فى محل والده، فوجد شقيقه الأصغر «ويصا» باكيًا بسبب ضرب زوجة أبيه «إستينا».
«ويصا ابن النيل» هكذا كان يقول آدم الأعمى.. أمّه سارة ملأت إبريقًا من الفخار الأسود من ماء الفيضان، وراحت إلى المقابر واستحمت عارية بالبحر الكبير.
كان فى بطنها يرى ولا يقوى على الدفاع عنها.. وأبوه يضربها لتموت.
حنا لم يكن راضيًا عن زواج أبيه بعد وفاة أمه.. تشاجر مع زوجة أبيه وصفعها، وكان الطرد.
اقتسم حنا رغيف خبز مع ويصا-٧ سنوات- الذى كان يبكى هذه المرة من الجوع.
قضيا ليلة فى بيت الخالة.. فى جيب حنا عشرة قروش.
اشترى حنا «إبرًا.. وخيطًا.. ودبابيس» ليبيعها مع شقيقه ويصا من بيت إلى بيت.
سعر البضائع أعلى بالريف.. بدأت رحلة تجوال طويلة على الأقدام من قرية إلى قرية.. تتعاطف القلوب مع الصغير ويصا أكثر.. بعد عشر سنوات ادّخر الشقيقان ٤٠ جنيهًا.
سمع الأخوان بغرق مركب بضائع فى نيل أسيوط.
البضائع مؤمّن عليها.. لم تجد شركة التأمين جدوى من استخراجها.. عرض مندوب التأمين المركب بكل محتوياته وهو غارق فى النيل بمبلغ ٤٠ جنيهًا.
قرر ويصا- الجرىء- شراء المركب.. الشقيق الأكبر حنا خاف على شقاء عشر سنوات.. ويصا- العنيد- هدد بإنهاء الشراكة مع أخيه وأخذ نصيبه من المال.. لم يتحمل حنا فكرة فراق شقيقه ووافق على المجازفة.. كان الرهان على النيل.. النهر الذى تحنّط فى جوفه يوسف بن يعقوب، وأمر الرب موسى بأن يبحث فى قاعه عن تابوت عظامه المطمور لمئات السنين قبل الخروج، وأرشدته إلى مكانه عجوز لا ترى.. اشترطت أن يحملها موسى معه.
استخرج الشقيقان المركب الغارق بمساعدة الأهالى.. عبوات من الحرير الطبيعى، وأقمشة مغلفة.
ربحت تجارة المركب، وخرج جابر المنادى ليعلن على الملأ: «ألغى محمد سعيد باشا الجزية على النصارى وألحقهم بالتجنيد.. وكسر احتكار الأسرة العلوية للطين.. وسمح بتملك المصريين للأراضى».
عرض الأمراء بيع أراضيهم لشراء قصور فى أوربا.. جنيهات الأخوان ويصا ساخنة.. اشتريا أبعدية بنى قرة من الأمير حسين كامل، نجل أفندينا الخديو إسماعيل، وأطيان الدائرة السنية بالفيوم.. امتلكا معظم أسهم سكك حديد الفيوم.. أقرضا المال ولم تأخذ عمالهما شفقة بالمتعثرين.. تفاقمت الحرب الأهلية فى أمريكا.. بيع القطن المصرى بأسعار الذهب.. بحلول عام ١٨٩٨م كانا يملكان ١٢٠٠٠ فدان بــ٨٠ قرية من قرى أسيوط.. اتجها إلى الصناعة.. قاما ببناء مصنع تكرير السكر فى بنى قرة.. وبشراء ١٤٠٠٠ فدان أخرى فى الفيوم.
الأخوان ويصا تركا إرثًا مكونًا من ٢٨٠٠٠ فدان، ومبانى وفنادق موزعة بين أسيوط والفيوم.
كان ويصا مسافرًا بالقطار من القاهرة إلى أسيوط، أحس فجأة بألم فى معدته ونزل فى محطة المنيا.. انتظر فى استراحة المحطة.. وكان هناك مزاد كبير فى اليوم التالى.. تعرَّف بعض المتقدمين للشراء عليه.. دعوه لشرب القهوة.. سألوه عن سبب حضوره.. أجاب ابن تاجر الخردوات: «أتيت لإنجاز أعمال».
سأله أحد المتقدمين للشراء: «كم تأخذ وترحل؟» قال، وهو لا يدرى ما هو مفروض أن يتركه: «أنتم تدفعون كم؟».. عرض المتقدمون ١٠٠٠ جنيه.. لكن ويصا طلب ٢٠٠٠ من الجنيهات.. قال المشترون: «نقسم البلد نصفين»، وافق ويصا على ١٥٠٠جنيه، وغادر المنيا بالقطار التالى.
طلب ويصا يد ابنة أسرة أرستقراطية من عائلة الجوهرى.. عميد الأسرة صورته الزيتية بمتحف اللوفر بباريس.
جرجس الجوهرى، مساعد الفرنسيس فى جباية الضرائب، نفاه محمد على لسنوات معدودة إلى أسيوط، وكان المعلم يعقوب ابن ملوى، قائد جيش المسيحيين، ساعده الأيمن.
شقيقه الأكبر إبراهيم الجوهرى كان فى زمانه سلطان القبط.. زوّج ابنه الوحيد يوسف.. ولم تنم المدينة من الفرح.. ليلة عرسه مات.. هدم الدرج الذى يتوصل منه الناس إلى السكن، وأغلق البيت على من فيه حتى لا يصل إليه أحد.
مات إبراهيم الجوهرى وجاء الحاكم التركى وأمر بالصعود إلى بيت الابن ونهبه، ولما قبضوا على ابنته دميانة، الوحيدة الباقية لتقر بممتلكات أبيها، جمعت الفقراء الذين يعولهم أبوها وقالت: «أموال أبى فى بطون هؤلاء وعلى أجسادهم»، تأثر الباشا وتركها تنصرف لحالها ولم يتعرض لها.
هكذا ناسب ويصا أعظم أراخنة الأقباط.
وخطب لشقيقه حنا يد فردوس، ابنة أسرة لقبها «معلقة»؛ ويقال إن مؤسس الأسرة يمتلك أول «معلقة» من الفضة فى أسيوط.. كلا العريسين لم يشاهدا العروسين قبل حفل الخطوبة.. لاحظ حنا أن عروس المستقبل جميلة بينما عروس ويصا نحيفة وسمراء.. مال حنا على ويصا: «إذا كنت ترغب أن نتبادل قبل فوات الأوان.. تأخذ الجميلة وأنا آخذ الأخرى».. رد ويصا: «أنا لا أتزوج امرأة بل عائلة».. كان حنا زوجًا طيبًا.. ويصا كان يقضى معظم وقته بالقاهرة مختلطًا بسيدات المجتمع تاركًا زوجته فى أسيوط مع الأطفال.
حدثت مناقشة حادة بين أبناء العمومة، جورج الابن الأكبر لويصا كان مستبدًّا، وجندى الابن الأكبر لحنّا كان شابًّا طيبًا.. قال جورج: «أنتم مجرد خدم فى العائلة.. كل الأراضى والمصانع باسم والدى».
سأل جندى والده: «هل صحيح؟»..
سافر حنا القاهرة فى اليوم التالى.. ذهب إلى النادى.. رأى ويصا يقامر وسأل شقيقه: «هل حقًّا أننى وأسرتى خدم لك وأنه لا يوجد شىء باسمى، وكل شىء باسمك؟».
ويصا اعتاد توقيع كل عقود شراء الأراضى والمصانع باسمه بالفعل.
فترك القمار وخرج من النادى وانفجر فى البكاء قائلًا: «وأنت، هل تصدق الأطفال؟..كل ما هو باسمى ملك لكلينا بالتساوى.. ألا تذكر رغيف العيش؟ أعطيتنى نصفه وهو ملكك، والعشرة قروش كانت لك وأنت أعطيتنى نصفها».
توجه ويصا مع شقيقه حنا إلى المحاكم وكتب عقود كل الأملاك باسم الشقيقين معًا موثقة بهذه العبارة: «ويصا بقطر وحنا أخوه»..
وشقّ ويصا معطفه نصفين وأعطى حنا النصف قائلًا: «كل ما هو لى نصفه لك...».
الأخوان ويصا.. مقطع من رواية «الأسايطة» الصادرة حديثًا عن دار «روافد»