رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عذرًا.. فلسطين هى الأرض والروح معًا


ما يعرف إعلاميا بالصراع العربى الإسرائيلى أسميه أنا صراعًا وجوديًا إنسانيًا فى المقام الأول.. وقد سبق أن كتبت مقالا فى عمودى الأسبوعى هذا «كلام علمانى» عنوانه «أنسنة القضية».. ‏فهذا هو الحل الأوحد من وجهة نظرى التى طرحتها سلفًا رافضةً أسلمة القضية الفلسطينية وتعريبها، إذ أضر ذلك بها ضررًا بالغًا فى رأيى.‏
عندما ناديت بتلك «الأنسنة».. كنت أعى جيدًا أن هنالك من سيسبقنا أو يلحقنا إليها وله فى ذلك مآرب أخرى.. وها قد كان.. وتحقق ما توقعته وناديت به سلفًا!! فمن خلال متابعاتى فعاليات الدورة ‏الـ٧٥ لمهرجان فينسيا السينمائى الدولى.. شاهدت فيلما فلسطينيا أى «مخرجه فلسطينى» وكاتبه أمريكى من أصول ألمانية محملة بذنوب وآثام هتلر والهولوكست فحمل الشعب الفلسطينى فى فيلمه ‏ذنوب أهل مدين!! الطرح المقدم فى الفيلم جاء برؤية ومال «صهيونى».‏
فجهات التمويل، التى أنتجت الفيلم المسمى «فلسطينيًا» هى جهات تابعة للكيان الصهيونى.. «صندوق صهيونى للدعم» و«مركز ثقافى صهيونى» أنتجا للمخرج الفلسطينى الشاب «سامح زعبى»، ‏الذى يعيش بين نيويورك والأراضى المحتلة فيلما عنوانه «تل أبيب على نار» وهو فيلم كوميدى لطيف قد تستمتع بمشاهدته تماما كما يستمتع كثيرون بمشاهدة الأفلام الهوليوودية التى تصنع ‏الضحكات وتفرزها على الشفاه فتضحك الوجوه.‏
أما الرسائل السياسية التى يروج لها الفيلم ويزج بها فجاءت كمن يزج بالسم فى العسل، وهذا هو الشىء المفزع والمخيف فى رأيى والذى ضُمّن فى فيلم لطيف جيد الصنع ومتقن.. الفيلم يريد أن ‏يقول وباختصار.. إننا مللنا الحرب ولا بد لنا من السلام.. والحرب بالطبع ليست فقط مملة بل مريرة ولكن أى سلام يريدون وعن أى سلام يتحدثون؟!.‏
سلام أم استسلام وانبطاح وغبن ورضوخ؟!‏
المقاومة مريرة والموت بغيض والصبر مر ولكن أيضا اليأس مر.. فإن نيأس ونستسلم لفكرة الاستسلام فيكون ذلك ليس هو فقط عين الهوان بل تصبح تلك هى الهزيمة عينها..‏
فيلم «تل أبيب على نار» للمخرج «سامح زعبى» الذى ينتمى لنفس الجيل الذى ينتمى له بطل فيلمه «سلام»، والذى لم يحضر معه لفينسيا لأنه يهاب ركوب البحر، والبندقية مدينة عائمة والمياه ‏هى وسيلة المواصلات الوحيدة فيها، وهذا ما صرح به المخرج فى الندوة التى أعقبت عرض الفيلم لجمهور المهرجان فى عرضه العالمى الأول.. ولا أظن أن ذلك الفيلم يمكن أن يمر بسهولة أو ‏يعرض فى المهرجانات العربية، لأنه يتبنى وجهة نظر الطرف الآخر، الذى بدأ وأجج الصراع ومازال يؤججه ولا يهادن بل يناور وبكل الأساليب المتاحة.. والفن والسينما هما بالطبع خير وسيط ‏لتوصيل الرؤى والأطروحات السياسية التى يتبناها هنا الطرف المغرض «الطرف الغازى المعتدى المحتل» لا المفعول به وبحقه جرائم لا حصر لها سخر منها الفيلم نصًا عندما سخر من ترديد ‏المكلوم لبكائياته على ما حدث فى «دير ياسين» وغيرها من المجازر.‏
بطل الفيلم شاب عبثى ملّ العيش فى البحر الميت ويريد العيش فى البحر المتوسط يعيش على الهامش فى أراضيه المحتلة.. لا يطيق المكوث فى غرفته لثلاث دقائق.. يرى أن التين هو فاكهة ‏الحب وليس «البندورة»- وهى الطماطم- بلغة أهل الشام - قبل التقسيم الاستعمارى فى سايكس بيكو.. باختصار هو شاب محبط يائس فشل فى أن يكمل شيئًا ما بدأه.. حتى قصة الحب الوحيدة فى ‏حياته مع جارته «مريم» والتى قامت بدورها ممثلة فلسطينية شابة هى «ميساء عبدالهادى» والتى ظهرت كذلك فى فيلم صهيونى عرض أيضًا فى مهرجان فينسيا.. لجأ بطل الفيلم «سلام» للعيش ‏فى كنف خاله وهو المنتج التليفزيونى، الذى ينتج فى «تل أبيب» أحد مسلسلات الصابون والذى أطلق عليه نفس اسم الفيلم «تل أبيب على نار».‏
تستاء كاتبة السيناريو من الطرح العبثى وبطلة العمل الفرنسية التى تتحدث العربية بالكاد فيسند الخال مهمة استكمال كتابة السيناريو لبطل الفيلم والذى وقع فريسة فى يد الضابط الصهيونى فى أحد ‏المعابر.. فصار ذلك الضابط القاسى خفيف الظل صديقًا للكاتب بل ملهمًا له فى كتاباته حتى صار بمرور الوقت - وبحكم تلك الصداقة العبثية التى حدثت بينهما بالصدفة وبفعل الظروف القاهرة ‏‏«ظروف المحتل والمحتلة أرضه» - هو المتحكم فى سير النص الذى يكتب بشكل ارتجالى وطلب الضابط من الشاب الفلسطينى- الذى صار كاتبًا للمسلسل بالصدفة - أن تحب بطلة العمل وتتزوج ‏وهى «جاسوسة فلسطينية» من ضابط المخابرات الصهيونى «يهودا»، وبالتالى تخون قضيتها وحبيبها المناضل الفلسطينى مروان!!.‏
وساوم الضابط الكاتب على هويته فى مقايضة حقيرة، مفادها هويتك وأوراقك الثبوتية معى لن تأخذها إلا إذا تزوجت الفلسطينية من الضابط الصهيونى وتركت حبيبها المناضل الفلسطينى.. ‏وعندما طرح البطل الكاتب الفكرة على خاله المنتج قال له المنتج المخضرم نصًا «عرس بين فلسطينية وضابط صهيونى يعنى أننا سنصنع جزءًا ثانيا من أوسلو»!! وكانت تلك عبارة ذكية شديدة ‏الدلالة.. فالخال الذى ينتمى لجيل شهد التهجير والاستيطان والمجازر.. رؤيته تختلف تماما عن رؤية بطل الفيلم الذى مل وانبطح للضابط الذى نزع عنه هويته مقابل أن يكون هنالك عرس بين ‏الفلسطينية والصهيونى.. فالعرس حياة وتعايش فيه الكثير من التمازج والتناغم بل والديمومة!! فالجيل الذى يريد ويقبل بذلك العرس لم ير- أو بعبارة أدق - لم يستوعب فيلم «عرس الجليل» لميشيل ‏خليفى.. جيل لم يعش أنقى وأرقى مراحل النضال الذى غزله جورج حبش ورفاقه قبل أسلمة القضية والمتاجرة بالقدس من قبل فصائل الإسلام السياسى هنا وهناك.‏
واستكمالًا لذات الطرح عرضت بطلة العمل الفرنسية على البطل الفلسطينى أن يرحل ويعيش معها فى باريس قائلة له «فى باريس لا توجد حرب».. أى اترك الحرب وارحل مع الراحلين لتفرغ ‏الأرض من قاطنيها وسكانها الأصليين وتترك للصهاينة كمغنم ثمين بمنتهى السلاسة والاستسلام!! نعم نحن أناس لا نحب الحرب ونتوق للعيش فى سلام وبلا تطاحن ولكن إن كان ذلك الطرح ‏الإنسانى الذى يتشدق بالسلام هو كذلك.. فليس هذا هو السلام الذى نادى به الراحل ياسر عرفات، وقال عنه مرارًا وتكرارًا إنه «سلام الشجعان» وإن لم يستطع تحقيقه حتى رحل.‏
لكن يكفيه أنه كان واعيًا لوجود نوعين من السلام.. «سلام للشجعان» وسلام آخر مغرض يطرحه المعتدى الغاشم وطرحه الفيلم - على استحياء - مستخدمًا الكوميديا كآلية تمرير لطيفة خفيفة ‏رشيقة ذكية لعبت على التفاصيل الإنسانية والاجتماعية الصغيرة بين بطلى العمل الكاتب الفلسطينى والضابط الصهيونى، وإن لم يستطع تمريره بالفعل فى نهاية العمل وآثر السلامة.. ذلك الجيل أو ‏ذلك الطرح الذى يقول «لقد مللنا ونريد الاستسلام واستمراء عدم الصراع فكفانا تطاحنا غير مجدٍ».. ذلك لن يمر بسلام ولا بسلاسة - لدى الطرفين وعلى قدم المساواة - وإن مر الفيلم فى مهرجان ‏فينسيا مرورًا سلسًا ولاقى قبولا واستحسانًا كبيرين.‏