رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وصف مصر بالجريمة فى «90 دقيقة»‏


اعتدنا- للأسف- فى الفترة الأخيرة، متابعة برامج مسائية يتم إعداد مسرحها كحلبات ملاكمة ومصارعة لحالة نزال بين ضيوف تم اختيارهم بعناية من قبل صبيان إعداد تلك البرامج من حرّيفة إشعال الحرائق الوهمية التافهة، ‏وحتى لو كانت القضايا مهمة، فإنه من الصعب متابعة ما يُقال ويُشاهد لكثرة المقاطعات الرذيلة بين الضيوف، عبر تسخين محاورهم الذى علم أن راتبه وزيادته مرهونان بجلب الإعلانات، والإعلانات متوقفة على مدى ارتفاع ‏المشاهدة، والمشاهدة تجلبها سخونة الحلقات التى يتم تسبيكها لمخادعة البسطاء، على أنها تمثل حالة من الجرأة فى الطرح وسماع كل الآراء.. وهى كل الآراء التى يريد مقدمو تلك البرامج أن تنتهى بها تحديدًا وتلفيقًا.--‏
لذلك، أسعدنى ذلك الشكل والمضمون والتوجه الجديد لبرنامج «٩٠ دقيقة» على قناة المحور، ومُقدمه الإعلامى الأكاديمى «محمد الباز»، عبر تخصيص الجانب الأكبر من زمن حلقاته لفتح ملف لقضية مهمة، ويمكن أن تمتد ‏لعدة حلقات لتناول محاورها، ولكل محور ضيف متخصص، ينساب معه الحوار بهدوء مفيد للعرض والتناول، والمشاهد المستهدف الأول بإعلام ناضج يمتلك مبدعوه المهارة والمهنية والإثارة أيضًا، ولجذب عينى وأذنى متلقٍ ‏محترم.‏
وكان آخر مثال على ممارسة تلك التركيبة البرامجية المحترمة، ما طرحه البرنامج حول ظاهرة تصاعد وتطور الجريمة فى الشارع المصرى.. وتمت استضافة خبراء فى مجالى الأمن وعلم النفس، والحلقة الأخيرة تم ‏تخصيصها باستضافة الكاتب الصحفى بجريدة الأهرام نبيل عمر، الذى قدم فى هذا السياق للمكتبة المصرية كتابًا رائعًا «وصف مصر بالجريمة.. ماذا حدث فى قاع المجتمع خلال ربع قرن؟» تناول عبر فصوله عرضًا تحليليًا ‏تاريخيًا وعلميًا موضوعيًا لحال الجريمة لدينا، مؤكدًا من خلاله أهمية وضع تطور الجريمة لدى المؤرخ المحترف عند صياغته أى مؤلف تاريخى.‏
يرى الكاتب أن الجريمة قد تكون هى الانعكاس الأصدق التى يرى فيها أى مجتمع نفسه، إذ يقف أمامها بلا ورقة توت تستر عوراته، ولا خيابات الهروب من تناول الواقع بشفافية، ولا بتزوير براءات الأمن والأمان الكاذبة، نعم ‏إنه لا يوجد مجتمع يخلو من الجريمة، لكن شكل الجريمة وتنوعها وأدواتها وأساليبها وطرائق ارتكابها ووسائل مكافحتها وإنزال العقاب بمرتكبيها تختلف من مجتمع إلى مجتمع، وتبين حجم الجزء المتعفن فيه وتداعياته على بقية ‏هذا المجتمع.‏
وقد عرفت المجتمعات البشرية الجريمة منذ أقدم العصور بوصفها ظاهرة خطيرة صاحبتها منذ نشأتها الأولى، وأبعدت المجرمين فى خانة الفئة المرفوضة اجتماعيًا لما يسببونه من أضرار تطول أمن المجتمع واستقراره، لا ‏فرق فى هذا بين مجتمعات متقدمة ومتخلفة، قديمة أو حديثة، لأن الجريمة نفسها تطورت مع تطور مجتمعها، من عصر إلى عصر، ومن حالة إلى حالة، ومن نظام إلى نظام، بسبب ارتباطها بشكل هذا المجتمع ونمطه فى الإنتاج ‏وتوزيع الثروة وسياساته فى كل شئون الحياة.‏
وقد نؤمن بأن الفرد لا يولد شريرًا ولا جشعًا، والانحراف لا يرجع إلى نقص فى طبيعة هذا الفرد أو إلى نزاعات داخلية فى نفسية البشرية، وإنما تسببه فى الغالب نواقص ومثالب فى البيئة المحيطة به، وعدم تهيئة الجو النفسى ‏والمناخ الملائم لتربيته وتوجيهه ورعايته بصورة سليمة.‏
ويؤكد «نبيل عمر» ارتفاع معدل الجريمة بشكل ملحوظ عقب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ وبالتحديد عقب أحداث ٢٨ يناير وانسحاب الشرطة من الشارع، وحسب بيانات وزارة الداخلية كان الارتفاع ما بين ١١٠٪ فى جرائم الحرق ‏العمد إلى ٣٥٠٪ فى جرائم السرقة بالإكراه، مرورًا بالقتل والخطف والاغتصاب وهتك العرض، وكان متوسط الارتفاع ٢٠٧٪. كان ذلك طبيعيًا ومتوقعًا بعد اقتحام ما يقرب من ٣٥٪ من الأقسام والمراكز على مستوى ‏الجمهورية والاستيلاء على الآلاف من أسلحة الشرطة، وهروب أكثر من ٢٢ ألف مسجون من عتاة المجرمين، وإخلاء سبيل آلاف المعتقلين جنائيًا وسياسيًا، تنفيذًا لإلغاء قانون الطوارئ.‏
وكشفت صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية عن إحصاءات صادمة للجريمة عقب الثورة المصرية، حصلت عليها من وزارة الداخلية، وأظهرت الأرقام تضاعف حالات الخطف، بهدف الحصول على فدية والسطو المسلح ‏وسرقة المنازل، إضافة إلى سرقة السيارات وجرائم القتل.. قالت الجريدة إن «البلطجة» تحولت إلى «مهنة» تملك قوة وعتادًا لبث الخوف فى نفوس الآمنين.. وللمقال تتمة قادمة بإذن الله.‏