رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد العسيرى يكتب: خليها تحمض.. المحاولة ليست أخيرة

محمد العسيرى
محمد العسيرى

تربطنى بريحة الأرض علاقة غريبة.. لا أستطيع مقاومة عشقى لها، فحتى وإن كنت لا أمارس هذه المهنة العظيمة.. مهنة الفلاحة.. إلا أن حكايات الزراعة والزرع تأسرنى.. يخطفنى من كل مواجع الدنيا ذلك الأخضر الذى يغسل العيون والهموم لمجرد رؤيته.. فما بالك بمعنى الانتظار.. والصبر.. والحصاد.. والفرح بأرزاق الله لعباد الله.
لا يتوقف الأمر عند عشق الأشجار والنباتات كونها مصدر راحة نفسية.. أو أنها فرجة عظيمة بالنسبة لى.. لكن الأمر يمتد إلى كونى لا أرى نجاحًا ولا انتصارًا للإرادة المصرية سوى فى حياة الفلاحين وانتصاراتهم الصغيرة.
علّم المصريون القدماء العالم كله فنون الزراعة.. واخترعوا كل ما ارتبط بها.. من اختراع الشهور.. ومعرفة الزمن.. إلى مقياس النيل.. ومقاومة الفيضان.. شق الترع.. وبناء الجسور.. والأهم من ذلك كله.. قيم التعاون.. والتكافل.. والتسامح والبقاء.. الحياة بأكمل وأجمل وأنظف معانيها.. هناك.. فى تلك الأرض السمراء التى تشبعت بعرق ودماء أجدادنا.. جيلًا بعد جيل.
ربما.. لهذه الأسباب فقط تابعت خلال الأيام الفائتة تلك الحملة النبيلة التى لا أعرف من أين بدأت.. ولا من هم الذين دعوا لها.. لكنها صارت حديث الناس فى المقاهى.. اسم الحملة واضح.. والسبب أيضًا واضح.. غلاء مربك ومستفز فى أسعار الفاكهة والخضروات.. وصل إلى الحد الذى دفع الناس إلى هجرة الفاكهة وشراء أقل القليل من الخضروات التى لا يمكن للمواطنين مخاصمتها.
لقيت الحملة صدى واسعًا بين الناس.. وبسببها دارت مناقشات جادة.. حتى لشباب كنت أظن أنهم بعيدون عن هموم الحياة المعتادة.. أبرزها.. أن هناك مسافة واسعة وكبيرة بين الأسعار التى يبيع بها الفلاحون وأصحاب المزارع.. وبين السلعة نفسها عند «آخر بائع»، وأن أكثر من سبعين بالمائة من السعر يضيع عند الوسطاء.
ربما لم تنجح الحملة فى تحقيق هدفها النهائى.. لكنها كشفت عن سلوك جديد قد ينمو بين المصريين فى الفترة القادمة.. صحيح أن المقاطعة سببها أن الناس لم تعد تستطيع دفع ثمن كيلو مانجو.. أو كيلو بلح «وصل إلى أربعين جنيهًا للبارحى على سبيل المثال».. وليس تعاطفًا مع الحملة والتزامًا بأهدافها.. لكن النتيجة البسيطة التى تحققت قد تتكرر مجددًا.. وتدفع التجار للتراجع.
أستوقفنى فى الأزمة.. شىء غريب وهو أن الناس لا تعرف ذلك الجهاز المسمى حماية المستهلك.. ومن يعرفه لا يثق فيه.. ولا فى الآلية التى يعمل بها.. بل إن الكل يتفق على أن الحكومة ملزمة الآن وهى فى سبيل ترشيد إنفاقها بأن تتخلص منه ومن العاملين به وتوفر ما يصرف عليه لخزينتها.
الأمر الآخر.. هو علاقة المحليات بالأمر.. فالأزمة جرت ولا تزال فى عز تغيير السادة المحافظين و٧٦ فردًا من قيادات المحليات.. وجميعهم استلم عمله.. وجميعهم بدأ بتصريحات مبشرة.. وجولات ميدانية مهمة.. سواء علنية تصاحبها الكاميرات، أو متخفيًا كما يحلو للبعض أن يفعل عند بداية توليه المسئولية.. هؤلاء جميعًا.. لم يذهب أحدهم إلى سوق ليعرف سر ارتفاع أسعار الخضر والفاكهة.. ولم يجر اجتماعًا مع قياداته المعاونة لبحث سبل السيطرة على الأسواق.. يعنى من الآخر هنفضل كل واحد.. شغال فى حتة.
بقى أمر أخير.. أعتقد أننا قادرون على تنفيذه إذا ما توفرت نية حقيقية للإصلاح.. ما هو العيب يا سادة فى التسعيرة الجبرية؟ على أحدكم أن يجيبنى.. نحن فى أشد الحاجة الآن إلى «تسعيرة».. وإلى قوة إنفاذ للقانون تقوم بتطبيقها.. الناس «جدَّت» على رأى قريبى الصعيدى الفلاح الذى يفكر فى هجر مهنته لأن عائدها لا يرجع له.. ولأنه لا يفهم لماذا يشترى منه التاجر كيلو الطماطم بجنيه ويبيعه بعشرة!!
وزارتا التموين.. والتنمية المحلية.. وأجهزة وزارة الداخلية المعنية.. وجمعيات المجتمع المدنى التى لا تعمل أبدًا بين الناس.. ونحن أيضًا، جميعًا نحتاج إلى رؤية وطريقة وسيناريو جديد للتعامل مع الفلاحين وأرضهم وخيرها الذى يذهب لجيوب ناس ما بتحسش.. وما بتعرفش غير النهب.