رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرجل الذى فقد أنفه

هانى عبدالجليل
هانى عبدالجليل

عاد إلى البيت بعد أن قضى معظم النهار على المقهى، محاولًا محاربة وقت الفراغ الذى ناصبه العداء بعد الخروج إلى المعاش.
فتح باب الشقة ودخل، سمع صوت زوجته من المطبخ الممتلئ بالأدخنة.
- إنت جيت يا أبوحسين؟
- أيوه يا حاجة.. سلام عليكم.
- وعليكم السلام.
دخل غرفة النوم، خلع جاكيت البدلة، خلع حذاءه وأزاحه بقدمه تحت السرير، ولبس شبشب كان بجواره. خلع البنطلون، لبس بنطلون البيجامة وظل بفنلته ذات الحمالتين. دخل المطبخ سائلًا زوجته
- أنت طبخلنا إيه النهاردة يا حاجة؟
- يعنى أنت مش شامم الريحة!.. ملوخية.
- لا والله مش شامم. أنا هدخل أحلق دقنى لحد لما تحضرى الغدا.
وضع الفوطة حول رقبته ودخل الحمام. خرج حليق الذقن يمسح وجهه بالفوطة، مر بالصالة التى امتلأت بضوء شمس المغيب ذات اللون الأصفر الباهت، متجهًا إلى غرفة النوم.
وقف أمام المرآة، وضع ماء الكلونيا على يديه ووضعهما على خديه مغمضًا عينيه من شدة الحرقان.
ارتسمت على وجهه علامات من الدهشة، فتح زجاجة الكلونيا مرة أخرى، وضع كمية أكبر على يده وأخذ يشم، لكنه لم يشم شيئًا. فتح زجاجات العطر الخاصة بزوجته وأخذ يشم ولكنه لم يشم أى رائحة. فتح الدولاب ودس رأسه فى الملابس محاولًا أن يتحسس بأنفه أى رائحة، لكنه لم يستطع. سمع صوت زوجته تناديه
- الأكل جاهز يا أبوحسين.
- أيوه يا أم حسين.. جاى أهوه.
جلس بجوارها على السفرة وعلى وجهه ملامح الدهشة ممزوجة بالحزن.
- إيه الريحة دى كلها يا راجل؟!
- هو أنت شماها؟!
- طبعًا.. دا الريحة مالية الشقة.. مالك؟!
- الظاهر إنى مابقتش أشم.
- هه.. هه.. يا راجل أنت بتشتم نفسك ولا إيه!
- لا مش قصدى.. أنا قصدى إنى فقدت حاسة الشم.. ودا ممكن يا أم حسين إن الواحد يفقد حاسة الشم لما يكبر؟!
- يا خويا أنت بتقول إيه.. دا تلاقيه شوية برد.
- لأ.. ده مش برد أنا كويس أهو.. ومش شامم حاجة!
- ياخويا حتى لو حصل أديك هتستريح من الروايح الوحشة اللى مالية الدنيا.
- بس برضه فى روايح حلوة كتير.. ريحة الكتب والجرايد، ريحة الربيع وزهوره، وريحة طبيخك.
ياالله.. حسن الختام.
- بعد الشر.. ربنا يديك الصحة وطولة العمر.
قامت زوجته تنير مصباح الصالة التى أصبحت مظلمة بعد ذهاب آخر نور للشمس مع غروبها. والرجل ما زال يجلس على المائدة وحيدًا يتحسس أنفه، مفكرًا فيما قد يفقده بعد ذلك.