رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن العلاقات الشائكة بين الأدب والسينما.. أحمد مراد مثالًا


الكلمة للكاتب والصورة من شأن المخرج"، قاعدة غير مكتوبة يُعلّقها العاملون في مجال الفن فوق رءوسهم، هي أمر مُتعارف عليه في كل الأحوال ولا يخترقه سوى من جمع بين هذين الحُسنيين من ألوان الإبداع، مثلما يفعل العبقري داوود عبدالسيد الذي دومًا ما ينتقي حكايات أفلامه ويكتبها بنفسه؛ حتى عندما اتجه إلى صياغة عمل أدبي على الشاشة، كان هو من انتقى الشيخ حسني لينسج من حوله أسطورة "الكيت كات"، بينما ظلت رائعة الراحل إبراهيم أصلان "مالك الحزين" متفردة بإبداعه في عالم الأدب.
من المنطقي التسليم بأن الأدب والسينما عالمان مرتبطان ببعضهما ارتباطًا وثيقًا، والمقارنة الوحيدة المسموح بها في قواعد اللعبة هي التساؤل عن أيهما استطاع أن يُجسّد الصورة المطلوبة ويعبر عنها كأنها حقيقة؟ أهى الكلمات أم الكاميرات؟. بخلاف هذا التساؤل لا يُمكن إلا أن ينأى كل من يخوض في هذا التشابك بنفسه عن مجالات عقد المقارنات. لا شك في أن الكثير من الأعمال الأدبية التي كانت مجهولة للجمهور العادي قد نالت شهرتها حقًا عندما تحولت إلى فيلم سينمائي، قبل ذلك لم تكن معروفة سوى لباعة الكتب والمُقبلين على القراءة، لكن عندما يتصدر اسمها الشاشة الكبيرة، فإن ذلك يُعطيها نوعًا آخر من الحياة؛ والعكس هنا صحيحًا بدوره، فربما تتم معالجة النص الأدبي بطريقة تقليدية لا تُبرز جماليات الصورة الأدبية التي نجح الكاتب في رؤيتها في مخيلته حقًا، بينما -للأسف- فشل المخرج في معالجتها؛ لذلك تتيح السينما الفرص لمُعالجة الأعمال الأدبية بطرق مختلفة ومن زوايا عديدة.

في الغرب يُعّد ذلك من الروائع حقًا ولا يُفقد الجمهور الملل رغم تكرار المُعالجات للنص أو الفكرة نفسها أكثر من مرة. هكذا تحولت شخصيات "هيركيول بوارو" و"شيرلوك هولمز" و"جيمس بوند" إلى أساطير في الأدب والسينما معًا دون أن يُفقد أحدهما الآخر رونقه. قد تجد أكثر من معالجة سنيمائية للعمل الأدبي الواحد مع اختلاف اللغات وبلد الإنتاج، وهو ما حدث مع أسطورة "كارمن" على سبيل المثال؛ كذلك ربما تنال إحدى المعالجات المختلفة إعجابًا وإقبالًا عالميًا، وربما تأتي المُعالجة نفسها بطريقة لا يُمكن تكرارها كما حدث مع رواية "الأب الروحي" التي قررت هوليوود عدم تكرارها مرة أخرى، في حين تتم صناعة وتداول المعالجات السينمائية الأخرى للنص نفسه بشكلٍ مُزرٍ وغير لائق بجودة هذا العمل الأدبي.

لم تدم الفترة الذهبية التي اعتمدت فيها السينما المصرية على تحويل النصوص الأدبية إلى أفلام سينمائية، شهدت ذلك الحقب الزمنية التي تلت ثورة يوليو 1952، فكانت أفلام الخمسينيات والستينيات وربما جزء من السبعينيات كذلك أعمالًا على الشاشة لأهم كتاب هذه المراحل، هناك إحسان عبدالقدوس، ويوسف السباعي، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وغيرهم من رواد كتابة الرواية؛ ولكن دعنا نتذكر أن إحسان عبدالقدوس لم يكتب سيناريو فيلم "الوسادة الخالية"، بل قام بذلك عبقرى آخر هو السيد بدير؛ ولم يقترب العالمي نجيب محفوظ من كتابة سيناريو واحد لإحدى رواياته الأشهر في الشارع المصري، والتي تناولها عدة متخصصين في الكتابة السينمائية، وعندما كتب هو نفسه للسينما كان يكتب للشاشة مباشرة، أو يتناول قصة أحد زملائه ليعالجها سينمائيًا، مثل فيلم "إمبراطورية ميم" عن قصة إحسان عبدالقدوس؛ ومن هذا المنطلق نجد طه حسين عميد الأدب العربي وهو مؤلف رواية "دعاء الكروان" يكتفي بكتابة روايته الأيقونية، في حين يعمل كلا من هنري بركات ويوسف جوهر بكتابة السيناريو والحوار للفيلم.

الآن فإننا باعتبارنا الجمهور المصري، سواء جمهور السينما أو القراء، نواجه تقليعة جديدة تسمي "الأعلى مبيعًا"، وهي حيلة من ابتكار بعض دور النشر لمضاعفة أرباحها، فهذا الأعلى لم يعرفه آباؤنا أو أجدادنا من قراء طه حسين على سبيل المثال، ولم تهرع شركات الإنتاج والمخرجين للحصول على السبق الذى يحقق لهم "أعلى الإيرادات"، ولكن منذ عقد فائت ساد مصطلح "الكتب الأعلى مبيعًا" والذي سرعان ما نجده الطريق السحري لأية رواية حتى تتحول إلى فيلم يحصد أعلى الإيرادات أيضًا. هنا لا تهم جودة العمل، بل مقدار ما يحققه من أرصدة لدى الناشر والمنتج السينمائي.

في هذا الصدد نجد المثال الأقرب والأكثر شهرة في المرحلة الحديثة الكاتب والمصور ومصمم الأغلفة والبوسترات أحمد مراد، الذي نجح تعاونه مع المخرج مروان حامد في تحويل أعماله إلى الشاشة في فيلميه "الفيل الأزرق" و"تراب الماس"، رغم القصور في ربط الخطوط الدرامية لكاتب اعتاد كتابة رواياته على هيئة فلاش باك من العصر القديم إلى الأحدث. قدّم مراد أولى محاولاته في الكتابة للسينما مباشرة، فكان فيلم "الأصليين" الذي يعتقد عنه الجمهور والنقاد أن الكاتب نفسه لم يحدد هدفه من كتابة الفيلم مسبقًا، ولكنه رقص على السلم، فلم يكتب سيناريو سيريالي يتفهم أبعاده الخبراء ولا قام بكتابة سيناريو تقريري يخاطب الجمهور العادي. من الواضح أن مراد اعتمد في كتابة سيناريوهات رواياته على سمعة "الأعلى مبيعًا" وانتظار جمهور القراء لمشاهدة الرواية التي أعجبتهم على الشاشة الكبيرة، والدليل أنه عندما كتب للسينما مباشرة فقد صدّر للمتلقي سيناريو متفكك لا يُمكن تصنيف إلى أي مدرسة سينمائية ينتمي. بينما لم يلحظ التجربة التي فتحت آفاق الشهرة لشريك عمله مروان حامد، الذي قدّم الفيلم الشهير "عمارة يعقوبيان" عن رواية علاء الأسواني الذي لم يفكر في كتابتها سينمائيًا، وإنما تولى ذلك القدير وحيد حامد بحرفية بالغة ونجاح كبير.