رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجريمة والعقاب فى «تراب الماس»


لم يسعدنى الحظ ولم يسعفنى الوقت لأقرأ رواية «تراب الماس» للكاتب والروائى أحمد مراد، لكننى ذهبت إلى السينما لمشاهدة الفيلم المأخوذ عن الرواية والذى كتب له السيناريو نفس المؤلف، وأعترف بأنه إذا كان الكثير من الجمهور قد أقبلوا على الفيلم، فهذا لأنهم قرأوا الرواية وأعجبوا بها، كما أعترف بعد مشاهدة الفيلم الرائع الذى قدَّم من خلاله المخرج مروان حامد صورة ولغة سينمائية رائعة حرَّكت فينا الروح والعقل والبصر- بأننى خرجت من دار السينما وفى نيتى البحث عن الرواية وشرائها وقراءتها.

حينما سُئل الكاتب صاحب جائزة نوبل، نجيب محفوظ، عن رأيه فى تحويل مؤلفاته إلى أفلام، رد بأنه مسئول عما كتبه من القصة أو الرواية. هذه إجابة دقيقة وقصيرة ومفيدة لذا فى السطور التالية سأتحدث عن الفيلم الذى شاهدته.

منذ أول لحظة ولقطة فى الفيلم وبينما أتابع وأشاهد تملأ الأفكار ذهنى وتتشابك ويتحرك عقلى طوال الفيلم ويصول ويجول بين تاريخ ووقائع مرت علينا وما زلنا نعيشها وقائع تجسد دولة الفساد التى يتربع ويتغلغل فيها الفاسدون كعقد ليس من الماس، لكن حباته تتراص بجوار بعضها مربوطة بقوة تستمدها من التزاوج بين السلطة ورأس المال والإعلام وتجار الممنوعات (الدعارة والمخدرات) وبعض ضباط البوليس الفاسدين، الذين يتكسبون من وراء هذه المنظومة ويحمونها ويطيلون عمرها.

تتوالى المشاهد وتقفز أمامى على شاشة عقلى صور تطبيق العدالة وتنفيذ الأحكام على يد الأفراد وليس على يد السلطات المسئولة عن تطبيق القانون فى الدولة. عشنا فى الواقع القريب مشاهد صادمة ومؤذية وغريبة على طبائعنا مثل تعليق أحد الأفراد (الذين ارتكبوا جرائم سرقة أو انتهاك أعراض أو قتل) وتقييده وضربه حتى الموت، بل التمثيل بجثته.

بالطبع من يرتكب هذه الجرائم يستحق القتل، لكن القانون يُلزمنا بتسليم المجرمين لتأخذ العدالة مجراها ويحاكموا محاكمة عادلة.
يقول الأب حسين الزهار (والذى قام بتجسيد دوره الممثل القدير أحمد كمال) لابنه طه الفنان آسر ياسين (لو غلطنا لازم ندفع الثمن حتى لو اعتذرنا). فما بالك لو كان الغلط خطيئة فى حق الوطن، مثل ارتكاب جرائم نهب المال العام أو الكذب من قِبل رجال الإعلام والترويج لغير الحقيقة أو تجارة المخدرات التى تضر بآلاف الشباب وتتسبب فى سقوطهم فى مستنقع الإدمان، ما يدمر ثروتنا البشرية أو خيانة الوطن.
وتتوالى مشاهد القتل والانتقام ويقفز إلى ذهنى العديد من الجرائم التى لم يتم الحكم فيها حتى الآن رغم مرور عدة سنوات مما يزيد من الإحساس بالظلم لمن وقع عليهم الظلم ولمن كانوا ضحايا ومجنيًا عليهم. فالعدالة البطيئة ظلم وقهر وغبن. وهنا يقفز السؤال الذى يطرحه الفيلم: ماذا لو أن كل فرد فى المجتمع أخذ حقه بيده وطبَّق القانون على الجانى؟ بالتأكيد سيتحول المجتمع إلى غابة وستسود شريعة الغاب التى تقوم على أن البقاء للأقوى، والقوى يفترس الضعيف، والكبير يأكل الصغير، وفى الغابة تسود غريزة الانتقام، ويتحول القاتل إلى ضحية والضحية إلى قاتل.
وأنت تشاهد الفيلم تجد نفسك أمام سيمفونية موسيقية ومعزوفة سينمائية يقودها بجدارة المخرج مروان حامد بتمكنه من أدواته ولغته السينمائية الفنية الراقية التى تقوم على إشباع الروح ومتعة البصر، ويكتمل المشهد بالموسيقى التصويرية المؤثرة لهشام نزيه، وبالإضاءة وزوايا التصوير لأحمد مرسى وديكور محمد عطية وملابس ناهد نصرالله الذين نجحوا فى تغطية حقبة زمنية تقترب من سبعين عامًا. وتكتمل السيمفونية السينمائية بالأداء الرائع والمتناغم لأوركسترا من الممثلين والممثلات، فها هو الفنان القدير أحمد كمال يؤدى دور الأب القاتل بروعة تُشعرك بأنك أمام فنان من معدن نفيس يزيده الصقل تألقًا والممثل الشاب آسر ياسين الثمرة الناضجة المتربعة وسط عرش شجرة الفن وأدائه الرائع أمام العملاق القدير ماجد الكدوانى (ضابط الشرطة الفاسد) قدموا لنا أروع المشاهد ومعهم البلدوزر الصاعد المتألق دومًا محمد ممدوح والذى قام بدور البلطجى الذى ينفذ الأعمال القذرة والقتل لصالح الفاسدين الكبار، ودعونى أتوقف أمام الأداء العالى الإحساس والمشاعر لمنة شلبى خاصة فى المشهد الذى اكتشفت فيه خديعتها فى المذيع النجم الذى أحبته، منة شلبى تستحق الوقوف فى أول الصف بين نجمات جيلها.

استطاع عادل كرم أن يجذب بشدة النظر إليه فى دور هانى برجاس. أما الفنان النجم إياد نصار فاستطاع أن ينقل لنا ببراعة الحياة المزدوجة لنجم الإعلام الذى يحاول كشف خبايا قضايا الفساد وعلاقات السلطة ورأس المال، وفى نفس الوقت هو رجل فاسد الأخلاق، منعدم الضمير. أما النجمة شيرين رضا فأقنعتنا بعمق أدائها بالصوت واللفتة والحركة أنها سيدة الأعمال التى تفنى عمرها فى العمل الخيرى والاهتمام بأطفال الشوارع، وفى نفس الوقت تدير أكبر شبكات الدعارة التى تقدم الإناث والذكور لإشباع رغبات كبار رجالات المال والأعمال. دعونى أهمس فى أذن الفنان خفيف الظل فؤاد بيومى: ألم يئن أوان اختيار أدوارك بدقة بعد تألقك فى دور اليهودى بأداء تفوقت فيه على نفسك فى فيلم «تراب الماس»، وبالذات أنك بالتأكيد تخطيت مرحلة الانتشار؟!.
فى «تراب الماس» يستحق القتل كل من تم قتله ولكن ليس بيد الأفراد، كما قلنا فى بداية المقال ولكن بإرساء دولة القانون والعدل والمساواة.
وفى نهاية المقال أود أن أقول إن خلاص الناس من الظلم ليس فى دس تراب الماس فى الشاى للقتل، لكن فى العدالة الناجزة وسرعة إصدار قوانين العدالة الانتقالية واستئصال جذور الفساد فى المجتمع وتطبيق وإنفاذ القانون، فالمواطنون لدى القانون سواء وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة لا تمييز بينهم، كما تنص المادة ٥٣ من الدستور.
«تراب الماس» فيلم يستحق أن تراه لتشبع حواسك الفنية والبصرية والسمعية وتُحفِّز ملكاتك الروحية والعقلية.