رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عزوة نجيب.. التاريخ العائلى لـ«أديب نوبل»

نجيب وعائلته
نجيب وعائلته

هل هناك جديد يمكن أن يقال عن نجيب محفوظ «١١ ديسمبر ١٩١١ - ٣٠ أغسطس ٢٠٠٦»؟
هل بقى فصل من القصة لم يرو إلى الآن؟
هل يحتاج هذا الرجل الذى ملأ الدنيا وشغل الناس إلى من يكتب عنه؟
كانت هذه الأسئلة الثلاثة شاغلنا الأكبر حين قررنا أن يكون هذا الأسبوع - فى «الدستور» - أسبوع نجيب محفوظ، وذلك مع اقتراب الذكرى الثانية عشرة لمغادرة جسده عالمنا.
اليوم - فى بداية الاحتفالية - اخترنا أن نرجع إلى الوراء ونتركه يتحدث هو.
من «الجمالية» نقرأ لـ«نجيب محفوظ» وهو يتحدث عن والديه، وذلك فى مذكراته التى أملاها على الناقد الكبير رجاء النقاش ونُشرت تحت عنوان «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، وامتدادًا لحديثه العائلى ننشر حوارًا مع ابن شقيقته «أمينة» الذى يكشف جانبًا مخفيًا فى حياة «أديب نوبل».

الأم لا تقرأ ولا تكتب.. اسمها فاطمة.. ودخلت السينما مرة واحدة بدلًا من الحج
كانت أمى سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك كنت أعتبرها مخزنا للثقافة الشعبية، كانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار، وفى الفترة التى عشناها فى «الجمالية» كانت تصحبنى معها فى زياراتها اليومية، وعندما انتقلنا إلى العباسية كانت تذهب بمفردها، فلقد كبرت أنا ولم أعد ذلك الطفل المطيع، ولم يعد من السهل أن تجرنى وراءها، وفى كل المرات التى رافقتها فيها إلى سيدنا الحسين كانت تطلب منى قراءة الفاتحة عندما ندخل المسجد وأن أقبل الضريح، وكانت هذه الأشياء تبعث فى نفسى معانى الرهبة والخشوع.
والغريب أن والدتى كانت أيضًا دائمة التردد على «المتحف المصرى» وتحب قضاء أغلب الوقت فى حجرة «المومياوات» ولا أعرف السبب، ولا أجد تفسيرًا لذلك، فحبها للحسين والآثار الإسلامية كان ينبغى أن يجعلها تنفر من تماثيل الفراعنة، ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية، خاصة دير «مار جرجس» وتأخذ المسألة على أنها نوع من البركة، ومن كثرة ترددها على الدير نشأت صداقة بينها وبين الراهبات، وكن يحببنها جدًا، وذات مرة مرضت والدتى ولزمت البيت، وفوجئنا بوفد من الراهبات يزورها فى البيت، وفى ذلك اليوم حدث انقلاب فى «شارع رضوان شكرى» لأن الناس لم يروا مثل هذا المنظر من قبل، وكنت عندما أسألها عن حبها لـ«الحسين» و«مار جرجس» فى نفس الوقت تقول: «كلهم بركة».. وتعتبرهم «سلسلة واحدة».. والحقيقة أنى تأثرت بهذا التسامح الجميل لأن الشعب المصرى لم يعرف التعصب، وهذه هى روح الإسلام الحقيقية.
وأحب أن أوضح أن حب والدتى لزيارة المتحف والآثار الفرعونية لم يكن من منطلق دينى أبدًا، لأنها كانت تعتبر هذه الآثار «مساخيط»، كما يسميها أهالى الجبل فى الأقصر وسوهاج وأسوان، والحقيقة أن أول زيارة لى للمتحف المصرى كانت مع والدى - رحمه الله - ويومها زرنا الهرم ثم ذهبنا إلى «المتحف الفرعونى» ثم إلى «المتحف الإسلامى» بباب الخلق، بعد ذلك كانت كل الزيارات مع والدتى، كانت تصحبنى لأننى كنت أصغر أولادها أو ولدها الوحيد فى البيت بعد أن تزوج إخوتى، كما أن أخى الأكبر منى مباشرة كان طالبًا فى الكلية الحربية، وعندما تخرج وأصبح ضابطًا ذهب إلى السودان، وكانت زياراته للبيت نادرة جدًا، وكنت أعتبره مثل الطيف الذى يأتى فجأة ويختفى، استمر أخى فى السودان حتى عام ١٩٢٤ عندما اغتيل السردار «سير لى ستاك» وأصدر الملك فؤاد أمرًا ملكيًا بعودة الجيش المصرى من السودان، خدم أخى فى الجيش حتى وصل إلى رتبة «لواء»، ومات فى عام ١٩٧٥، وأذكر هذا التاريخ لسبب، وهو أننى مشيت معه فى جنازة «محمد» ابن أختى الذى استشهد فى حرب أكتوبر ١٩٧٣ بعد أن اعتبروه من المفقودين.
وأذكر أن ابن أختى هذا كان له ابن اسمه «طارق» استشهد معه فى الحرب، والاثنان كانا ضابطين فى حرب أكتوبر.
نعود إلى والدتى وأقول إننى لا أجد تفسيرًا حتى الآن لغرامها بالآثار القديمة، ففى أسرتنا الآن سيدات تعلمن فى مدارس أجنبية ويجدن اللغات الأجنبية والعزف على الآلات الموسيقية، ومع ذلك ليس لديهن ثقافة أمى أو غرامها بالآثار، إننى أجد فى أمى عراقة وأصالة أكثر من سيدات هذا الجيل، وإلى جانب عشقها للآثار كانت مغرمة بسماع الأغانى، خاصة أغانى سيد درويش، على الرغم من أن والدها الشيخ إبراهيم مصطفى كان شيخًا أزهريًا وله كتاب فى النحو طبع فى المطبعة الأهلية.
والحقيقة أن علاقتى بوالدتى- واسمها فاطمة- كانت أوثق من علاقتى بوالدى لأسباب كثيرة، منها أن والدى كان مشغولًا، ودائمًا كان خارج البيت فى عمله، فى حين أننى كنت ملازمًا لأمى باستمرار، وفى حين أن والدى مات عام ١٩٣٧ عاشت أمى بعده سنوات طويلة، إلى أن تجاوز عمرها المائة عام، وتوفيت إلى رحمة الله عام ١٩٦٨، فى نفس السنة التى حصلت فيها على جائزة الدولة التقديرية، ولقد ظللت أعيش معها فى منزلنا بالعباسية حتى تزوجت عام ١٩٥٤ وجاءت شقيقة لى مات زوجها لتعيش مع أمى.
كانت والدتى تتمتع بصحة جيدة طوال عمرها، ولا أتذكر أنها ذهبت إلى طبيب فى يوم ما، أو اشتكت من مرض ما، باستثناء العام الأخير من حياتها، حيث رقدت فى سريرها وهى عاجزة عن الحركة تمامًا، لقد ظلت أمى حتى حدود التسعين من عمرها تزور الحسين بشكل يومى، كما لم تنقطع عن زيارة أقاربنا، وكانت تحظى بمكانة وحضور كبيرين بينهم، ورغم أنها عاصرت ظهور التليفزيون فإنه لم يدخل بيتها، بل لم تدخل السينما إلا مرة واحدة، لمشاهدة فيلم «ظهور الإسلام» بعد أن وصل إلى مسامعها أن من يشاهد هذا الفيلم يكون بمثابة من ذهب لأداء فريضة الحج، وبما أنها لم تتمكن من الحج ذهبت لمشاهدة الفيلم.
كان لى شقيقان وأربع من الأخوات، ومع ذلك نشأت كأننى وحيد أبويه، فكل إخواتى تركوا المنزل بعد أن تزوجوا، سواء منهم الرجال أو النساء وبقيت وحدى، كنت أصغر الأبناء- كما قلت- ويبلغ فارق السن بينى وبين الأخ الذى يكبرنى مباشرة حوالى ١٠ سنوات، ولم يكن مقيمًا معنا فى المنزل، فهو- كما أشرت- التحق بالكلية الحربية، وبعد تخرجه أرسلوه إلى السودان وأمضى فيها عدة سنوات، وعندما عاد إلى مصر تزوج وترك البيت، وكان كل إخوتى يقيمون فى أماكن متفرقة وبعيدة، ونظرًا لهذه الظروف كانت والدتى تحيطنى برعاية كبيرة، وتصحبنى معها فى كل مكان تذهب إليه، سواء فى زياراتها للحسين والمتحف والأديرة، أو زياراتها لإخوتى المتزوجين، وكانت زياراتى إلى بيوت إخوتى لطيفة جدًا، وأحيانًا كانت أمى تتركنى أقيم بضعة أيام عند أخت لى متزوجة فى حى الحسين. كانت المنطقة التى عشنا فيها فى الجمالية أشبه بـ«بيت جحا»، شوارعها معقدة وضيقة، ولذلك كانت والدتى تحرص على بقائى فى البيت خشية أن تفقدنى، فقد كان مألوفا فى ذلك الوقت أن تسمع صوت المنادى يبحث عن طفل تائه، ونظرًا لأن والدتى كانت من هواة تربية الطيور فقد تحول سطح البيت إلى عالم للحيوان، وكنت أفرح بهذه الطيور وأمضى أمتع الأوقات على السطح مع الكتاكيت والأرانب والدجاج، وأحيانًا كانت أمى تسمح لى باللعب أمام البيت مع أولاد الجيران، ولما زادت «شقاوتى» بعض الشىء اصطنع والدى معى الحزم، وبعد أن دللنى حتى سن معينة، بدأ فى سياسة الشدة، وأخيرًا تخلص منى بأن أرسلنى إلى «الكُتّاب»، صحيح أننى كنت صغير السن ولا أفهم شيئًا، ولكن أهل البيت ارتاحوا منى، وعلى ذلك أستطيع القول بأننى عشت طفولة سعيدة لولا بعض المنغصات مثل «الكُتّاب» والحزم وسياسة الشدة.
وبالنسبة لشقيقاتى كان والدى يرسلهن إلى المدرسة، حتى إذا ما ظهرت على الواحدة منهن علامات الأنوثة يمنعها عن المدرسة، ويحدد إقامتها فى البيت، وتكون حينئذ ملمة وبشىء من الصعوبة بالقراءة والكتابة، بل إن منهن واحدة نسيت القراءة والكتابة تمامًا بعد الزواج، أستثنى من ذلك شقيقة واحدة تمكنت من تنمية قدراتها حتى أصبحت تقرأ الجرائد والمجلات بسهولة، وقد أخذت من أختى «أمينة»، التى توفيت فى الثمانينيات، اسم «أمينة» بطلة «بين القصرين».

الأب لم يضربه إلا مرة واحدة.. وأخذ من «السيد أحمد عبدالجواد» حبه للفن فقط
من أبرز سمات أبى الشخصية أنه كان يرتدى نوعين من الأزياء، نوعًا للشتاء وآخر للصيف، ففى الشتاء يرتدى «البدلة» وفوقها «البالطو» وفى الصيف يرتدى «الجبة والقفطان»، أما الطربوش فعامل مشترك يرتديه شتاء وصيفًا، وكان ذلك أمرًا غريبًا بالنسبة لما هو شائع فى تلك الأيام، فالذى يرتدى الملابس الأفرنجية لا يرتدى الملابس الأزهرية، والعكس صحيح، كما كان والدى- رحمه الله- شديد الالتزام والتنظيم، حيث يعود إلى البيت كل يوم بعد انتهاء العمل ويظل جالسًا فى البيت، ويمضى وقته بين الصلاة وقراءة القرآن والجلوس فى صمت، وكانت له قدرة غريبة على الجلوس فى حالة صمت تام لساعات طويلة، وبعد أن يتناول طعام العشاء ينام، ولم يكن أبى من هواة القراءة، والكتاب الوحيد الذى قرأه بعد القرآن الكريم، هو «حديث عيسى بن هشام» لأن مؤلفه محمد المويلحى كان صديقًا له ويسكن فى نفس المنطقة.
عندما أحيل أبى إلى المعاش عمل فى «فابريكة» أو «مصنع» للنحاس، وكانت إجازته الأسبوعية يوم الأحد، فيقضى مساء السبت فى «الكلوب الحسينى» أيام كنا نعيش فى الجمالية، وفى «قهوة الجندى» عندما انتقلنا إلى العباسية، ويقع هذا المقهى فى المكان الذى أقيم فوقه «كازينو بديعة» فيما بعد، وهو أمام دار الأوبرا القديمة، وفى أغلب سهراته كان أبى يصطحبنى معه ويشترى لى «جيلاتى» ويجلس هو مع أصدقائه ويقضون وقتهم فى الضحك والنكات ثم نعود سويًا مستقلين الترام.
كان والدى يعاملنى بحنان ولطف ولم يضربنى فى حياته إلا مرة واحدة، ولهذه «العلقة» قصة، كانت عساكر الإنجليز تحتل ميدان «بيت القاضى» حيث نسكن، وكانت تعليمات أبى تمنع فتح النوافذ المطلة على الميدان مطلقًا، لأن الإنجليز كانوا يعتبرون النوافذ المفتوحة بمثابة تهديد لهم، فقد يكون هناك من يحاول إطلاق الرصاص عليهم من النافذة المفتوحة، وذات يوم انتهزت فرصة انشغال أمى فى المطبخ وفتحت النافذة، وجلست أشاهد العساكر الإنجليز وأقلد حركاتهم وأصواتهم عند تغيير الطابور العسكرى، وفجأة وجدت أبى واقفًا فوق رأسى وهو ينظر لى بغضب شديد، ثم أحضر عصاه وهوى بها علىّ وجاءت أمى تساعده، وطرحانى أرضًا، وأمسكت أمى بساقىّ ورفعتهما إلى أعلى، ليتمكن أبى من ضربى بالعصا على باطن قدمى... وكانت المرة الأولى والأخيرة التى يضربنى فيها والدى- رحمه الله.
أما أمى فلم تضربنى- أيضًا - إلا مرة واحدة، فذات يوم كنت ألعب مع خادمتنا الصغيرة «زكية» وأحضرت شفرة حلاقة وأقنعتها- ببراءة الأطفال- أننى طبيب وأستطيع أن أجرى لها عملية جراحية فى يدها، وصدقتنى، وأعطتنى ذراعها، فجرحتها، ولما رأت «زكية» منظر الدم صرخت، وجاءت أمى فزعة، وصفعتنى على وجهى وتوعدتنى بقطع يدى بالشفرة، وعند سماعى لهذا التهديد شعرت بالرعب وهربت منها.
اهتم والدى بتعليمنا، وبالنسبة للبنات أتاح لهن قدرًا من التعليم يعتبر معقولًا فى ذلك العصر، وهو أوائل القرن العشرين، أما بالنسبة للأولاد فقد اهتم بتعليمهم حتى النهاية، وكانت غاية أمله أن نلتحق بسلك القضاء أو الطب، ولذلك غضب عندما التحق شقيقى محمد بالكلية الحربية، واضطر أخى للاستعانة بأحد أقاربنا واسمه «عفيفى» لكى يذهب معه إلى الكلية ويضمنه بعد أن رفض أبى مجرد الذهاب معه إلى الكلية، أما شقيقى الثانى «إبراهيم» فقد تخرج فى مدرسة المعلمين العليا، وعمل مدرسًا للرياضيات والعلوم، وعندما أصبح «ناظر مدرسة» نقل إلى ديوان المحاسبة، وأحيل إلى المعاش وهو بدرجة «مراقب حسابات» وتوفى إلى رحمة الله فى العام الذى قتل فيه الرئيس أنور السادات، أى فى سنة ١٩٨١.
أما بالنسبة لى فلقد تغيرت حالى منذ المرحلة الابتدائية، وأحببت الدراسة، وشعرت بالمسئولية، وكنت دائمًا من الأوائل وأحصل على نتائج طيبة جدًا، هذا التفوق كان مصدر سعادة لوالدى الذى بدأ يدللنى ويزيد من مصروفى وفى الهدايا التى يقدمها لى، حتى ظن كثيرون من أصحابى أنى من أسرة ثرية، وطوال دراستى الابتدائية والثانوية كانت علاقتى بوالدى طيبة للغاية، ولم أسمع منه أى عبارة لحثى على الدراسة أو أى إنذار أو عقاب فى حالة إهمالى لدروسى، لم يقل لى شيئًا من هذا القبيل، لأنه كان يلاحظ اهتمامى بالتعليم وحرصى على التحصيل، وعندما وصلت إلى الشهادة العليا فى آخر المرحلة الثانوية، وكان اسمها «البكالوريا» على أيامنا، كان أمل والدى أن ألتحق بكلية الحقوق أو الطب، لأكون إما وكيل نيابة أو طبيبًا، فهاتان الوظيفتان فى رأيه هما أحسن وظيفتين فى مصر، ولذلك أصيب بصدمة عندما أخبرته أننى أنوى الالتحاق بقسم الفلسفة بكلية الآداب، وقال لى: «يا ابنى التحق بكلية الحقوق تصبح مثل ابن عمك وكيلًا للنيابة، تمشى ووراءك عسكرى».
ودارت بيننا مناقشات كثيرة حول هذا الأمر، وكانت المناقشة الديمقراطية بين الآباء والأبناء فى ذلك الوقت أمرًا غريبًا، لأنه فى إمكان الأب حسم أى مشكلة بكلمة واحدة وتنتهى فورًا، ولكن يبدو أن كثرة عدد أولاده، علمت أبى المرونة.
والحقيقة أن التحاقى بكلية الآداب كان شيئًا غريبًا بالنسبة لكل المحيطين بى، لأننى كنت متفوقًا فى الرياضة والعلوم، حتى إننى عندما اخترت القسم الأدبى فى «البكالوريا» احتج المدرسون وقالوا لى: «ما الذى فعلته بنفسك؟»، ورغم تلك الاحتجاجات دخلت القسم الأدبى، ونجحت فى البكالوريا عام ١٩٣٠، وكان عدد طلبة البكالوريا فى تلك السنة حوالى ٢٠ ألفًا، حصلت على مجموع ٦٠٪، وجاء ترتيبى العشرين على المدرسة، وبهذا المجموع كان فى إمكانى الالتحاق بكلية الحقوق مجانًا، ولكننى فضلت الآداب قسم الفلسفة.
حصلت من والدى على مكافأة النجاح فى «البكالوريا» وكانت عشرة جنيهات، لأقضى إجازة الصيف فى الإسكندرية، وأصيب عمى بالذهول لضخامة المكافأة، وعاتب والدى بشدة، وكان عمى يعمل موظفًا فى مصلحة التليغراف بمنطقة القناة، ثم انتقل إلى القاهرة وتخرج أولاده الثلاثة فى الجامعة، وكان أحدهم مستشارًا والثانى مهندسًا، أما الثالث فكان طبيبًا.
بعد التحاقى بالجامعة تحولت العلاقة بينى وبين والدى إلى ما يشبه الصداقة، وعندما اشترى جهاز «راديو» كنا نجلس لنستمع إليه سويًا، وأحيانًا كان يطلب منى دعوة أصدقائى ويصطحبنا إلى «نادى الموسيقى» فى عابدين، حيث كان نستمع إلى المطربين القدامى: عبداللطيف البنا، والشيخ إدريس، وغيرهما، وبعد أن تنتهى السهرة نعود مع أبى مستقلين «الحنطور»، ولم تكن هناك مناقشات سياسية بيننا، فوالدى وفدى وأنا كذلك، فلم يكن هناك مجال للجدل أو الاختلاف، ومن المحتمل أن يكون حبى للوفد نابعًا من تأثير والدى وتأثير أستاذى الشيخ عجاج، وعندما مات سعد زغلول كنت فى الخامسة عشرة من عمرى، إلا أننى أعتبره أفجع يوم فى حياتى، وكان من الأمور المألوفة فى ذلك الوقت قيام المظاهرات المؤيدة للوفد ولسعد باشا، وأول مرة أشاهد فيها مظاهرة كان عمرى ثمانى سنوات، وحسبتها فى البداية «زفة فتوات» مثلما كان يحدث فى الحسينية، وعندما رأيت المتظاهرين فى ميدان «بيت القاضى» سألت أمى عن اسم الفتوة صاحب المظاهرة!!.
كان والدى «سمّيع» أغانٍ حتى قبل ظهور الراديو، وإذا عرف أن «المنيلاوى» أو «صالح عبدالحى» أو «عبدالحى حلمى» أو غيرهم من كبار المطربين فى ذلك الوقت سوف يغنى أحدهم فى حفل زواج بالمنطقة، فلابد أن يذهب لسماعه.
وبصراحة كانت شخصية والدى تتحلى بقدر كبير من التسامح والمرونة والديمقراطية، وليس فيها استبداد أو عنف، ولا علاقة لها بشخصية «السيد أحمد عبدالجواد» بطل «الثلاثية»، بل كانت شخصية «سى السيد» تنطبق أكثر على جار لنا شامى الأصل اسمه «عم بشير»، استقر هو وزوجته- وهى شامية أيضًا- فى مصر، وكان بيته مواجهًا لبيتنا فى «بيت القاضى».
وشخصية الزوج الحازم القاسى كانت من الأمور المألوفة فى ذلك العصر، ولكن لم تكن تنطبق على أزواج شقيقاتى: نعيمة ورتيبة، وكان زوج أمينة عصبيًا بعض الشىء ولكن دون قسوة، والوحيد الذى كان فيه بعض ملامح «سى السيد» هو زوج شقيقتى «زينب». فقد كان صعيديًا من أصل كردى، كان فظيعًا، ومع ذلك كانت عندما يفيض بها الكيل تقف فى وجهه بشراسة، أما والدى فربما أخذت منه فى شخصية «السيد أحمد عبدالجواد» حبه للفن فقط.
على المستوى الشخصى كان والدى- رحمه الله- رجلًا مستقيمًا، وصحيح أننى لا أعرف شيئًا عن فترة شبابه ولكن كان من الواضح أنه ملتزم، ولم يتزوج غير والدتى، ولم تكن له علاقات نسائية، لأن مثل هذه العلاقات تنكشف، على عكس عمى «سعيد» الذى كان معروفًا بكثرة غرامياته وعلاقاته، وكانت زوجته تتشاجر معه لهذا السبب وتشكوه باستمرار لوالدى الذى هو بمثابة أبيه نظرًا لفارق السن بينهما، كنت أسمع والدى وهو يعاتب عمى «سعيد» لأن ما يفعله عيب، خاصة وبناته اقتربن من سن الزواج، وسوء سيرة والدهن قد يؤثر على فرصهن فى الزواج، والحقيقة أنى كنت أحب عمى «سعيد» لأنه كان شخصية لطيفة، والمغرمون بالنساء دائمًا تجدهم يتميزون باللطف وحسن الحديث والقدرة على الغزل، كما أنه كان شخصية متفتحة ومحبًا للحياة، وكان وجيها وسيمًا، وعندما يرتدى البدلة البيضاء ويضع وردة حمراء فى «السترة» يلفت انتباه حى العباسية كله.
أما العلاقة بين والدى ووالدتى فقد كانت مثالا للاحترام والحب، فلم أرهما مرة فى حالة شجار، صحيح أن أمى كانت عصبية إلى حد ما، وأحيانًا يعلو صوتها، إلا أنها كانت تحترم أبى، وكان لا بد أن تقف وهو خارج من البيت أو داخل إليه، ولا بد أن تساعده فى ارتداء ملابسه، وتعتنى بطعامه وشرابه ومظهره، وكان حزنها عليه عندما مات شيئًا لا يتصوره عقل.
مات والدى عام ١٩٣٧ ولم يطلع على أولى رواياتى «عبث الأقدار»، لقد قرأ لى بعض قصصى الأولى المنشورة فى الصحف، وكان يشعر بسعادة غامرة عندما يقرأ اسمى على هذه القصص، ومع ذلك لم تكن اهتماماتى الأدبية تعنيه كثيرًا، وعندما تخرجت سنة ١٩٣٤ فى الجامعة ساعدنى فى الحصول على وظيفة.
كنت سعيدًا للغاية براتبى إلى أن طلب منى والدى إعطاء والدتى جزءًا من هذا المرتب، وقال لى: «أنا لن أعيش إلى الأبد وأحب أن أطمئن على والدتك، ولذا يجب أن تساهم فى مصروف البيت».