رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد العسيرى يكتب: العيد اللى جاى بميعاد


وإحنا صغيرين ماكناش نعرف أن كل عيد بميعاد.. يعنى مش هيفوت.. ومش هيتغير.. يمكن عشان ماكناش عارفين.. كنا بنتلهف.. وبنشتاق.. وبنستنى.. وبنفرح.. ومن يوم ما عرفنا أن كل شىء بميعاد.. وأن العيد بيتكرر فى مواعيد ثابتة كل عام، فقدنا تلك البهجة التى كنا ننتظرها ونمارسها ونعود لننتظرها مجددًا بعد أن نكون قد تعبنا من اللعب ومن الفرح.. ومن العيد نفسه.
أحيانًا يساورنى الشك أن الأعياد مرتبطة بالطفولة.. أو بالعيال أحباب الله بمعنى أكثر تحديدًا.. وأحيانًا ولأننى أحب قريتى وأيامى فيها، أتصور أنه «عيد البلد وبس»، ربما لذلك ومنذ غادرت أهلى فى الصعيد.. ماعرفتش يعنى إيه عيد غير هناك.
الغريب أن الصعيد نفسه لم يعد كما هو.. ولم يعد العيد فيه هو ذلك الذى كنا نفرح به- وإحنا عيال- لكنه لا يزال رغم كل تلك السنوات البعيدة صاحب نفس البهجة، وكأنها منحوتة فى ذاكرة لا تريد أن تغيب.
والأغرب أننا حين نتحدث مع أصدقاء من القاهرة أو من بحرى.. يتصورون أن أعيادنا كانت شيئًا خرافيًا.. إلا أننى حين أذكرها، لا أجد شيئًا من ذلك.
كل عيد كان بالنسبة لنا هو متعة الانتظار.. وما يسبق الوقفة بأيام.. الناس كانت فقيرة.. فلم يكن أمر الذبح هينًا.. يعنى ماكنش فكرة شراء الخروف وتسمينه واللعب به شيئًا مبهجًا بالنسبة لنا.. ثم إن الخروف عادة موجود فى حظائر معظم المنازل كضيف دائم طول السنة، ومهمة إطعامه مع باقى أفراد الحظيرة مهمة يومية مقيتة.. يعنى خروف العيد لم يكن لعبتنا على الإطلاق.. لكن هناك أشياء أخرى ربما كانت سببًا لكل تلك البهجة المرسومة فى خيالاتنا حتى هذه اللحظة.
عم حسن الترزى- كنا نسميه الخياط- هو أشهر رجل فى قريتى فى مثل هذه الأيام.. عند الكبار والأطفال معًا.. الدنيا عنده زحمة جدًا.. والتوب الذى يشتريه الأب قبل العيد بشهر.. لا بد وأن يذهب إليه مبكرًا.. وعلى الرغم من زحمته غير المفتعلة فهو لا يستطيع أن يرد زبونه.. وطبيعى أن تذهب إليه فى الأيام الأخيرة قبل العيد- يمكن عشر مرات- عشان تسأل هو خلص الجلابية ولا لسه.. وطبعًا مسألة «القياس» مسألة مهمة.. الأكمام لازم تكون واسعة.. والسيّالة من الناحيتين لزوم «العيدية».. والحلويات والبلح وما شابه.. ولو دخلنا على مرحلة الشباب شوية.. يبقى لا بد من «صديرى» والصديرى لازمله «قطان».. مرحلة تجهيز جلابية العيد لا تقل متعة عن متعة «ليلة المكوى».
فـ«عم جمال سرحان» هو المكوجى الوحيد فى البلد- هو نفسه بائع الصحف الوحيد أيضًا- وموسم العيد بالنسبة له بتعب السنة كلها، فالجميع يحتاجون إلى ملابسهم الجديدة قبل الفجر.. وبعد أن تحصل على الجلابية المكوية بقدم عم جمال.. عليك أن تشيلها ليس «تحت المرتبة» فقط.. ولكن فى حبابى عنيك.. مين يضمن.. مش ممكن حباية بامبوزيا تطولها وتتبقع ويبقى العيد راح؟!.
وبعد الصلاة مباشرة.. لا وجهة للأحياء إلا مقابر الأهل.. ورغم أن الأهل من الأحياء كانوا يتحدثون كثيرًا عن «حرمة زيارة المقابر للنساء بملابسهن المزركشة».. إلا أن الأطفال والكبار تجدهم أول الموجودين فى أحواش مقابر البلدة «ومقاطف الرحمة» تملأ الحارات الضيقة- قرص الشمس ذلك القربان الفرعونى الشهير- وفى طريق العودة على كوبرى البلد والجسر ينتشر «بتوع الثلاث ورقات.. ولعبة الحظ»- لعبة بسيطة حيث يقذف أحدنا بالعملة الفضة إلى سطح أملس لعلبة حلوى فإذا استقرت العملة فاز بعلبة الحلوى، ونادرًا ما كان يحدث ذلك.. لكنها الفرحة التى تداعب الجميع والحلم الصغير بمكسب صغير يلائم أدمغتنا الأصغر.
المدينة لم تكن بعيدة عن أقدامنا.. لكن يلزمها بضعة جنيهات.. وسيارة أجرة.. وهروب من زيارات الدواوير المفتوحة لاستقبال «توحيش العائلات».. وفى المدينة لا شىء سوى المراجيح.. وكانت عيبًا بالنسبة لنا نحن الرجال الصغار.. والسينما الشعبية التى كانت تعرض أفلامًا تجارية سخيفة.. من عينة «بدنجان نادية الجندى» اللى لازم نسلم عليه.. أو «دواء نبيلة عبيد» الذى ترجونا أن نعطيه لها.
وقبل أن يحل المغرب.. لكون كل شىء قد انتهى.. والعيد خلص.
هل فى هذه الأشياء البسيطة أى شىء مختلف يجعل كل أفراح العمر معلقة بذلك العيد الذى لم يحضر إلى شقتنا المعتمة الخانقة فى القاهرة منذ سنوات.. أعتقد أنه لا شىء سوى طيبة أهالينا وبساطتهم تلك التى نحتاجها فى هذه الأيام.. حتى نجعل من كل أيامنا أعيادًا.
نحن فى حاجة لطرد كل خيالات شياطيننا التى علمتنا أن فى الاستهلاك متعة.. ذلك الانفتاح البغيض الذى حولنا جميعًا إلى سلعة.. وحول أيامنا إلى «حاوية مشتروات».. نحن فى أشد الحاجة الآن- بعد أن عرفنا أن كل شىء بميعاد- لأن نقذفه بالجمرات كما يقذف الحجاج شياطينهم.. فربما نستعيد عيدنا.. اليوم.. أو فى العيد اللى جاى.