رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسرار قمة «المتعوس وخايب الرجاء»!


منذ سنة وثلاثة أشهر، استنجد الأمير القطرى «المتعوس»، بالرئيس التركى «خايب الرجاء»، رجب طيب أردوغان، بزعم حمايته من تهديدات أشقائه وجيرانه فى دول مجلس التعاون، فأرسل الأخير تجريدة عسكرية تتولى حماية قصره وتنشر كمائنها فى ربوع عاصمته ضمن اتفاقية شملت ملء أرفف محال السوبر ماركت بالدوحة بالألبان والأجبان والمياه واللحوم والدواجن وما إلى ذلك.
بعد أقل من خمسة عشر شهرًا، فوجئ المتعوس باستغاثة من خايب الرجاء، يطلب فيها إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد الانهيار السريع لليرة التركية، فهز المتعوس طوله وتوجه إلى الخايب وأعلن من العاصمة التركية أنه «ينوى» ضخ ١٥ مليار دولار استثمارات فى تركيا.. ولأن النية محلها القلب، فقد أعلن السلطان خايب الرجاء أنه مستمر فى محاربة طواحين الهواء، ولم ينسَ بطبيعة الحال أن يذكر أنها حرب ضد الإسلام والمسلمين.
وأجمل ما فى المتعوس وخايب الرجاء أنهما كاذبان بامتياز مع مرتبة الشرف، فلا الأول كان يواجه تهديدًا من جيرانه رغم كل تدخلاته الخسيسة فى شئونهم، ومؤامراته التى يُهدر عليها المليارات، وأن انكشاف فضائحه هو سبب استنجاده بالأغا التركى وبملالى إيران أملًا فى الهروب من ساعة الحساب.. أما الثانى، فهو أكذب منه لأنه يعرف أن الليرة تتراجع بشدة منذ نهاية العام الماضى، وأن الانهيار كان متوقعًا ولذلك قرر الإسراع بموعد الانتخابات الرئاسية، وعندما أعلن الرئيس الأمريكى «ترامب» مضاعفة الرسوم على صادرات الصلب والألومنيوم التركية، بدأ فى ممارسة آلاعيبه المعتادة وتمثيلياته الرديئة محاولًا الإيحاء بأنها حرب على الإسلام الذى يزعم أنه خير من يمثله.. والإسلام من ممارساته براء.
صور القمة التعيسة كانت أشبه بجلسة عزاء، كالتى يقال فيها «الجنازة حارة والميت كلب»، فاليأس والقنوط كانا مرسومين بوضوح على وجهيهما، لأن كلًا منهما يعلم أنها قمة بلا قيمة، فقد دنا أجلاهما السياسى، وحان وقت دفع فواتير التهور والحماقة السياسية التى مارساها بتجبر وإصرار على مدى سنوات، فأضعفا بلديهما وشقا صفوف شعبيهما، وهما يلهثان وراء أحلام الزعامة الكاذبة.
عَينَا الأمير المتعوس المنطفئتان كانتا تتساءلان: لو كنت أعرف خيبة أملك الكبيرة لما جرؤت على الاستعانة بك لحمايتى من أشقائى، هل طلبت معونتك منذ عام حتى أجدك اليوم تطلب معونتى.. من سيحمينا نحن الاثنين غدًا؟ وإلى متى يمكن أن نصمد؟
أما عَينَا الرئيس التركى خايب الرجاء فكان الحزن والإحباط باديين فيهما بوضوح أكبر، فهو يعلم أن المتعوس لا يملك شيئًا إلا المال، لكنه لا يتقبل أن يحضر لبلده لمجرد الإعلان عن نيته استثمار ١٥ مليار دولار، هل هى عُمرة أو حجة ليقدم النية فيها على العمل؟، لماذا لم يعلن عن ضخ ودائع فى المصرف المركزى التركى؟، ولماذا ١٥ مليارًا فقط وليس ١٨ أو عشرين مليارًا؟
السؤال الأكبر الذى حيّر خايب الرجاء، وربما سأله للمتعوس فى غرفة مغلقة بعيدًا عن الصحفيين، هو: ما الذى يضمن أن تفى بربع وعدك والخوف والخيانة فى طبعك؟ خاصة أن ترامب إذا أمرك بلحس وعدك ونيتك ستلحسهما ولن تدخل لسانك إلى فمك قبل أن تلحس حذاءه أيضًا، حتى لا تجلس غدًا فى دائرة النسيان بجوار أبيك؟.
من المؤكد أن الغرف المغلقة لهذه القمة، التى يمكن تلقيبها بـ«القمة التاريخية للتعاسة»، قد شهدت أسئلة كثيرة بلا إجابات، وربما شهدت أيضًا بكاء ونحيبًا من الطرفين، مع حالات من التشنج والهياج العصبى، وربما استدعى الأمر تدخلًا طبيًا بالأقراص أو الحقن المهدئة.
العالمون ببواطن الأمور يقطعون بأن المتعوس تميم سأل خايب الرجاء أردوغان، كيف جاءته فكرة هذه المعركة الوهمية، خاصة أن تركيا ليس البلد الوحيد الذى فرضت واشنطن مؤخرًا رسومًا على صادراته إليها، فلم نسمع عن انهيار اليوان الصينى، رغم أن الصادرات الصينية لواشنطن قيمتها ٥٠ مليار دولار، فى حين أن حجم صادرات الصلب التركية إلى الولايات المتحدة يبلغ فقط مليارًا و١٢٧ مليون دولار؟!
ويقول أحد هؤلاء العالمين ببواطن الأمور إن خايب الرجاء نظر باستخفاف لسؤال المتعوس ولم يرد عليه، إلى أن كرر تميم سؤاله بصيغة أخرى وقال: كيف صدّق أتباعك هذه الكذبة المفضوحة؟ هنا تحولت نظرة السخرية إلى ضحكة هيستيرية قال بعدها: إنهم دائمًا يصدقون كل كذبة طالما أنهيتُ كلامى بأنها حرب ضد الإسلام، فأنا فى نظر هؤلاء «الأغبياء» سلطان المسلمين.
لم تتوقف الأسئلة فى الغرف المغلقة، خاصة أن الأمير المتعوس لا يعرف سبب اعتقال القس الأمريكى أندرو برانسون، الذى يعيش فى تركيا منذ ٢٣ سنة، بزعم التجسس لصالح رجل الدين «الإسلامى» فتح الله جولن، خصم الرئيس خايب الرجاء اللدود، بعد محاولة الانقلاب المزعومة فى ٢٠١٦، وكيف تخيل أردوغان أن واشنطن ستوافق على مبادلة القس المسيحى بجولن المسلم؟ مَنْ الذى أوهمه بذلك خاصة أن هذا القس لا ثقل حقيقيًا له، فهو يرعى كنيسة صغيرة فى تركيا عدد أتباعها ٢٥ فردًا فقط، وكان قبل القبض عليه يستكمل أوراقه لإنهاء إجراءات الإقامة النهائية فى تركيا مع ابنيه اللذين ولدا هناك؟.
كل إجابات الرئيس التركى خايب الرجاء لم تكن مقنعة للأمير المتعوس، ومع هذا فهو لا يملك إلا أن يعلن مساندته له على الملأ، حتى لو اضطر إلى غير ذلك بناء على أوامر من ترامب، أو حتى من المسئول عن قاعدة «العديد» الجوية الموجودة فى قطر، التى لو تحركت ثلاث أو أربع طائرات هليكوبتر منها تجاه قصر الحكم لوقف على سطح القصر معلنًا استسلامه.
ما لم يقله الرئيس خايب الرجاء أن السبب الحقيقى لانهيار الليرة، بعد سلسلة من الانخفاضات المتتالية، أنه سارع فور توليه أول رئاسة تنفيذية، فى يوليو الماضى، إلى تعيين صهره «براءت البيرق» وزيرًا للمالية، مما زعزع ثقة المستثمرين الذين تربطهم علاقات قوية مع الوزير السابق محمد شيمشك، كما أن هناك سببًا آخر، وهو إعلانه أنه سيعين محافظ البنك المركزى مباشرة، مما دفع كثيرًا من المستثمرين لسحب أموالهم من الأسواق التركية، ووفقًا لبيانات من الودائع المركزية التركية للأوراق المالية، فقد بلغ حجم الأموال التى سحبها المستثمرون الأجانب ٧٧١ مليون دولار من الأسهم المدرجة فى البورصة التركية خلال الربع الأول من ٢٠١٨، وإذا أخذنا فى الاعتبار ما أعلنته وزارة الاقتصاد التركية عن تراجع الاستثمار الأجنبى المباشر فى تركيا فى ٢٠١٧ بنسبة ١٩ بالمائة، لأدركنا أن رسوم ترامب ليست إلا أحد الأسباب لانهيار الليرة التركية.
المؤكد، كما يقول العالمون ببواطن الأمور، أن القمة التاريخية بين المتعوس وخايب الرجاء، انتهت بمصافحة باردة ونظر كل منهما للآخر وهو يقول بينه وبين نفسه، لعنة الله على اليوم الذى قررتُ أن أتعاون فيه معك.