رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منحة دراسية إلى الآخرة!‏


 

هذا الفيلم يستند إلى وقائع حقيقية، سجلها ١٢ ضابطًا وطبيب نفسي يعملون في شرطة «ريو دي جانيرو». تلك المدينة العائمة على أكثر من سبعمائة حي فقير، تخضع كلها تقريبًا لسيطرة تجار مخدرات يستخدمون أسلحة ‏لا تستخدمها الدول إلا في شن الحروب.

 ‏‏«نيجاس» حصل على سلاح «أي آر ١٥». و«بيستو» حصل على سلاح «يو زد أي إس»، والبقية هكذا. وهذا السلاح «أي ٧.٦٢» يجعلك تعتقد أن السيارات مصنوعة من الورق. في «ريو دي جانيرو»، تلك هي ‏أسلحة الجريمة. ورجال الشرطة، بالتالي، لا يحاولون فرض القانون لا في الأحياء الفقيرة.. ولا في الأحياء الغنية.. رجال الشرطة لديهم عائلاتهم، يا صديقي.. رجال الشرطة يخافون أيضًا من الموت. أحمق من يعتقد أن ‏هذه مدينة.‏

هذا ما يقوله الراوي في الثواني الأولى من فيلم «القوات الخاصة»، ‏Tropa de Elite‏ أو ‏The Elite Squad‏ وهو إنتاج أمريكي، هولندي، برازيلي، ترشح لـ٣٩ جائزة دولية حصد ٣٠ منها. وأعتقد أنك لو شاهدت ‏الفيلم، ستفكر ألف مرة قبل أن تتهور وتسافر إلى ريو دي جانيرو، العاصمة السابقة للبرازيل قبل بناء برازيليا، العاصمة الحالية، والتي يؤكد الواقع أيضًا أن أحياءها تشهد حوادث إطلاق نار يومية بين أفراد العصابات ‏المتناحرة، أو بين تلك العصابات وقوات الشرطة، وأن الرصاص الطائش يهدد باستمرار حياة سكان هذه الأحياء، بالإضافة إلى حوادث العنف التي تقع في إطار الجريمة المنظمة.‏

الثلاثاء الماضي، مثلًا، شهد جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأمريكي، شخصيًا، واحدة من تلك الحوادث، خلال زيارة رسمية إلى البرازيل، مع أنه كان يقيم في أحد فنادق «حي الأثرياء» بالقرب من شاطئ «كوباكابانا». ‏وفي تصريحاته للصحفيين المرافقين له على طائرة عودته قال «ماتيس» إن إطلاق النار بالقرب من الفندق الذي أقام فيه كان مزعجًا، ومحزنًا جدًا. وأرجعه إلى غياب ما سماه «الأمن التوافقي»، الذي لن يتحقق، وفق قوله، ‏إلا حين يقوم المجتمع كله بمساعدة الشرطة حتى تتمكن من إحكام السيطرة على «الخارجين على القانون».‏

في أيام أكثر سوادًا من أيامنا تلك، انتشرت في فضاء وخلاء مصر المحروسة أساطير كثيرة عن التجربة البرازيلية وجمالها وحلاوتها، وعن عظمة وعبقرية ونزاهة صانعها، الرئيس البرازيلي الأسبق «لولا دا سيلفا». ‏وكان لدينا مرشحون للرئاسة لا تخلو أحاديثهم من ذكر اسم هذا الرجل عمّال على بطّال. وفي هذه الأيام، الأقل سوادًا، بات من المفترض أن تقرأ وتسمع، مجددًا، اسم «دا سيلفا»، المسجون حاليًا، في قضية فساد، بعد أن ‏تقدم الحزب، الذي أسسه، بأوراق ترشحه في الانتخابات الرئاسية البرازيلية. وغالبًا، سترفض المحكمة الانتخابية العليا ترشحه، لأن قانون الانتخابات الرئاسية البرازيلية يمنع ترشح من صدرت ضدهم أحكام قضائية.‏

غير الحكم بسجن «دا سيلفا» لمدة ١٢ سنة، لا تزال هناك محاكمات مستمرة، في ست قضايا أخرى، متعلقة أيضًا بالفساد وغسل الأموال. ومع ذلك، تقول استطلاعات الرأي إن الرجل، البالغ من العمر ٧٢ عامًا، هو ‏السياسي الأكثر شعبية في البرازيل، وإنه الأوفر حظًا للفوز في الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في أكتوبر المقبل، لو لم تحُل إدانته دون قبول ترشحه. لو صحت نتائج تلك الاستطلاعات فإن غرابتها، أو لا منطقيتها، ‏ربما تعود إلى مستوى التعليم المتدني. إذ كشفت أحدث إحصائية رسمية متاحة عن أن ٤٣٪ فقط هم من يكملون تعليمهم المتوسط، لأن الأطفال يضطرون إلى ترك الدراسة في سن عشر سنوات، بحثًا عن أي مصدر رزق ‏لإعالة أسرهم. أما من يكملون تعليمهم الجامعي فلا تزيد نسبتهم على ٨٪. وفوق ذلك، تعاني الجامعة الاتحادية، هناك، من تدنّي مستوى خريجي المدارس الثانوية، الذي يؤدي بالتبعية إلى ارتفاع نسب الرسوب!.‏

وسط هذه المعمعة، أو «المعجنة»، دعت وزارة التعليم والبحث العلمي، الخميس، الطلاب المصريين للتقدم بأوراقهم، قبل يوم ٣١ أغسطس الجاري، إلى السفارة البرازيلية بالقاهرة، للحصول على منح دراسية مقدمة ‏من حكومة البرازيل لمواصلة دراساتهم الجامعية في مؤسسات التعليم العالي هناك. صحيح أن الوزارة لن تتحمل أي تكاليف عن هذه المنح، إلا أن ما سبق، وغيره، يُرجّح أن تكلّف الطلاب حياتهم، لأنها، باختصار، منح ‏دراسية إلى الآخرة!.‏!.