رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بيت الحلواني.. سميرة عبدالعزيز: محفوظ عبدالرحمن أضرب‏ عن الطعام والشراب فى أيامه الأخيرة

سميرة عبدالعزيز
سميرة عبدالعزيز

ظل يكتب للمسرح والإذاعة والتليفزيون والسينما، حتى أصيب بجلطة فى المخ أوقفت حركة الجانب الأيمن من جسده «يده وقدمه»، عندها أدرك أنها النهاية، فتوقف عن الطعام والشراب والحديث، ‏وقال لنفسه: «كيف لمثل محفوظ عبدالرحمن أن يعيش دون أن يكتب؟».‏
‏١٠ أيام قضاها الكاتب الكبير فى مستشفى الشيخ زايد قبل أن يرحل، رافقته خلالها زوجته الفنانة سميرة عبدالعزيز، التى التقتها «الدستور»، فى الذكرى الأولى لرحيله، لتتحدث عن تفاصيل الـ٣٥ ‏عاما التى عاشتها معه، ولم يختلفا فيها سوى مرة وحيدة تكشف تفاصيلها خلال السطور التالية.‏
‏■ بداية.. كيف مر عليك العام الأول لرحيل محفوظ عبدالرحمن؟
‏- لم يرحل طالما أن أعماله موجودة، وفى ظل تحقيق كل ما أراده من خلال أعماله الفنية، وإيمانه بأن الفن رسالة، وأدى هو رسالته على أكمل وجه حتى اليوم الآخير فى عمره.‏
‏■ تزوجتما عن حب.. فهل تتذكرين كيف كان أول لقاءً بينكما؟
‏- عرفته من خلال أعماله، ففى أحد أيام عملى فى المسرح القومى، وكنت عضوا فى المكتب الفنى، طُلب منى أن أؤدى مع اثنين من زملائى عملًا مسرحيًا كويتيًا اسمه «حفلة على الخازوق».‏
انبهرت بالعمل جدًا وسألت عن المؤلف، فقالوا محفوظ عبدالرحمن وإنه مصرى، سألت: «أومال هو فين دلوقت؟»، فقالوا لى إنه فى الكويت، وقتها تعصبت وقلت: مَن هذا الكاتب المصرى الذى أخذ عملًا رائعًا بهذا الشكل ‏وبدلًا من أن يقدمه إلى مصر ذهب به إلى الكويت؟
مر عام لم نلتقِ خلاله، وعُرض علىّ عمل درامى يحمل اسم «عنترة»، كان يحمل أيضًا اسم محفوظ عبدالرحمن، فتذكرت أنه صاحب «حفلة على الخازوق»، ووافقت على العمل وصورته بالكامل دون أن أراه، فى العام ‏التالى عُرض علىّ نص جديد يحمل اسم «الفاتح»، وهو مسلسل عن الشخصية التاريخية محمد الفاتح، كان له أيضًا. وفى «الفاتح» كان الدور أصغر من الذى قدمته فى «عنترة»، وكدت أن أعتذر عنه إلا أن المخرج الأردنى ‏قال: «إحنا عايزينك معانا ياست سميرة وعلى كل حال المؤلف موجود أهه نطلب منه يكبر الدور»، فرددت فى لهفة: «هو فين؟»، ليجيب «هو اللى قاعد هناك دا».. فكان أول لقاء جمعنا.‏
‏■ كيف طلب منك الزواج؟
‏- وقت مسلسل «الفاتح»، محفوظ رفض يكبر لى الدور، وقال: «آسف ما بكبرش أدوار لحد.. عجبك اشتغلى مش عجبك متشتغليش»، وقتها زاد احترامى لشخصه، فقبلت الدور على وعد أن العمل المقبل يكون لى دور بمساحة ‏أكبر فوعدنى بذلك.‏
‏«ليلة سقوط غرناطة» كان العمل الذى ألفه «محفوظ» بعد «الفاتح» فى عام ١٩٧٩، وفيه بدأت قصة الحب، فكان يحضر جميع أيام التصوير للمرة الأولى، وفى اليوم الآخير من التصوير صافحته وقلت: «إن شاء الله نتقابل ‏قريب»، ليرد: «بقولك إيه ما تتجوزينى».‏
ضحكت، وأبديت له مخاوفى من فكرة الزواج، وأنى لا أريد تكرار التجربة، بسبب عشقى الفن ورغبتى فى العيش متفرغة له، فقال لى إن له تجربة سابقة هو أيضًا، ويعشق الفن مثلى، ويريد أن نعيش سويًا لنقدم الفن الذى نعشقه ‏معًا، وطلب منى أن أفكر وتبادلنا أرقام التليفونات.‏
‏■ متى أخبرته بموافقتك على طلبه؟
‏- تواصلنا عن طريق التليفون لمدة سنة، حتى جاء موعد عمل جديد يجمعنا سويًا، وسافرت إلى تونس لتصوير «الكتابة على لحم يحترق»، ولحقنى «محفوظ» هناك وسألنى: «ها.. فكرتى؟»، فرددت «موافقة لما نرجع مصر»، ‏فقال «لأ دلوقتى.. هاتولنا مأذون».‏
وصدم «محفوظ» عندما علم أن الزواج فى تونس مدنى، ولا يوجد مأذون شرعى، وطلب منى أن نعود إلى القاهرة لنتمم الزواج ونأتى مرة أخرى إلى تونس لاستكمال التصوير، لكن المخرج أنقذنا وعقد لنا أحد المشايخ، الذى ‏كان يقدم دورا معنا ونصبوا لنا حفلًا كبيرًا، فكان أسعد يوم فى عمرى. وعشت معه ٣٥ سنة، هى عمر زواجنا، كانوا أسعد سنوات عمرى، قضيتها مع رجل مثقف راق يقدر المرأة ويحترمها.‏
‏■ يعنى ذلك أن طوال هذه السنوات لم تكن هناك نقاط اختلاف ولم تتشاجرا مثلًا؟
‏- «محفوظ» كان بسيطًا حتى فى طلبات طعامه، فلم تكن معقدة مثل معظم الرجال، يحب الملوخية والخضار، فهى وجبته المفضلة، وفى الحقيقة هو لم يضايقنى ولا مرة واحدة، وأنا الذى ضايقته مرة وخالفته أخرى.‏
الأولى كنت فى تصوير ولم أخبره بأننى سأتأخر، وكنا تواعدنا إنى عندما أتأخر أخبره بالتليفون، لكن فى هذه المرة اندمجت ونسيت أن أتصل عليه فانزعج منى وقال: «نسيتينى يعنى»، وقتها «بوست إيده وراسه وقولتله حقك ‏عليا».‏
أما المرة، التى خالفته فيها عندما عرض على أحد المخرجين دور «خادمة»، وحاول إقناعى بأن دورها مؤثر وهى من تربى الأولاد، فسألت «محفوظ» رأيه، وفى العادة كان يقول: «ما تشوفى إنتى»، أما هذه المرة قال «لأ.. ‏لو وافقت كل المخرجين هيجيبوكى خدامة»، لكننى صممت على الدور وبالفعل من أدت دور «الهانم» عاملتنى بإهانة، فكان معه الحق، ولم أخالف رأيه من وقتها.‏
‏■ ماذا عن كواليس «بوابة الحلوانى»؟ ‏
‏- «بوابة الحلوانى» أول مسلسل كتبه محفوظ عبدالرحمن بعد زواجنا، كان يعمل بعد تخرجه فى دار الوثائق وفى يوم وهو فى طريقه للمنزل بعد انتهاء العمل وقع على رأسه ملف كبير، جلس على الأرض يجمع أوراقه فإذا به ‏وثائق قناة السويس.‏
تحسر «محفوظ» على كم الدماء، التى بذلها المصريون من أجل هذه القناة، وكان الإنجليز لايزالون مسيطرين عليها. بعد عدة سنوات وفى العام ١٩٥٦ تحديدًا أمم «عبدالناصر» القناة، وقتها هتف محفوظ: «عبدالناصر بنى ‏هرم رابع لمصر»، وقرر أن ينفذ فكرته.‏
كنا فى زيارة لمدينة بورسعيد، أخذنى زوجى لنتنره أمام بحيرة القناة، وأخبرنى عن كم الجهود والتضحيات التى بذلت من أجل أن تخرج بهذا الشكل، وانفعل حين تذكر أن الإنجليز كادوا يستولون عليها لولا تأميم ‏‏«عبدالناصر»، وأصفح لى عن رغبته فى كتابة شىء عنها.‏
‏«سميرة أنا هقعد فى لوكاندا هنا وأكتب حاجة عن القناة»، قالها لى، فعرضت عليه أن نشترى شقة فى بورسعيد حتى أستطيع أن آتى إليه من وقت لآخر وقد كان، وجلس فيها حتى أنهى الجزء الأول من «بوابة الحلوانى».‏
‏■ كيف كانت طقوسه أثناء الكتابة.. ومتى كنت تطلعين على كتاباته؟
‏- «مكنش بيسمح لحد يدخل عليه وهو بيكتب، ومرة واحدة حاولت أسأله بتكتب إيه قال لى آسف لما أخلص تبقى تشوفى».‏
هذا الموقف كان كفيلًا بأن يمنعنى طوال السنوات من التدخل فى عمله، كان عندما ينتهى من كتابة عمل آخذ الأوراق أضع أرقام الصفحات والمشاهد، لأنه لم يكن يحب القيام بهذا الدور، وعندها كنت أقرأ ما كتبه قبل الذهاب ‏إلى المطبعة.‏
عادة ما كان يأخذ قهوته فى الخارج معنا ثم يدخل إلى غرفته وغير مسموح لأحد أن يقطع خلوته مهما حدث فى الخارج إلى أن يخرج وحده.‏
‏■ نعرف أن للأستاذ محفوظ إرثًا كبيرًا من الكتب فى مكتبة ضخمة بمنزلكم.. فكيف تجمعت كل هذه الكتب؟
‏- على مدى سنوات حياته، عندما كان يسمع بوجود كتاب يشتريه ويقرأه ثم يزين به مكتبتنا، وذلك حتى آخر أيام عمره، فقبل الوفاة بشهر، اشترى موسوعة كتب عن الديانة المسيحية فقلت له: «هنعمل بيها إيه دى؟»، قال «لازم ‏نقرا فى كل حاجة».‏
وأنا بصدد إهداء هذه المكتبة إلى مكتبة الإسكندرية، شريطة أن يكون هناك ركن خاص فيها يحمل اسمه، حتى يتعرف تلامذته وجمهوره على فنه وثقافته، كما سأزين هذا الركن بصور للكاتب وجوائزه أيضًا.‏
‏■ هل تتذكرين كيف مرت اللحظات الأخيرة فى حياة محفوظ عبدالرحمن؟
‏- الـ١٠ أيام الأخيرة التى قضاها داخل المستشفى لم أترك فيها يده، يد كانت ممكسة به والأخرى تحمل القرآن الكريم، نتوسل به إلى الله أن يأخذ بيده من هذه الأزمة، حاولوا مرارًا أن يعودوا بى إلى المنزل حتى أستريح إلا أننى ‏كنت أتسلل وأعود إليه مرة أخرى.‏
أضرب «محفوظ» عن الطعام والشراب، فحاولت التأثير عليه وإقناعه بتناول الطعام «طب بوق ميه»، إلا أنه لم يستجب، فاضطر الأطباء إلى إمداده بما يلزم جسده من خلال المحاليل.‏
‏«لحد آخر لحظة كنت ماسكة إيده»، وبينما أنا جالسة إلى جواره ممسكه بيده وجدته فجأة يشد على يدى، فتح عينيه ونظر إلىّ وابتسم، تهللت وناديت الممرض: «محفوظ فتح.. محفوظ فاق.. إنده الدكتور».‏
لكن قبل أن يصل الطبيب كان قد نمى إلى سمعى صوت صفير «المونيتور» معلنًا النهاية، وكان ذلك فى ١٩ أغسطس ٢٠١٧.‏