رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوقوف مع الكنيسة وقوف مع الوطن


شهدنا الأزمة التى تمر بها الكنيسة المصرية، بعد واقعة الاغتيال المؤسفة التى تعرض لها رئيس دير أبومقار، الأنبا أبيفانيوس، على يد الراهب المشلوح إشعياء المقارى، الذى تم شلحه عن الرهبنة بقرار من البابا تواضروس، بعد ثبوت تورطه فى عملية القتل، والأمر يتعلق بخلاف بين مدرستين فى الكنيسة، الأولى منفتحة على باقى الكنائس، يمثلها الأنبا المقتول أبيفانيوس، وكثير ما شجعها البابا تواضروس فيما عرف بسعيه للتقريب بين وجهات نظر الكنائس المختلفة، الثانية أكثر تشددا وصلت لأقصى تطرف لها حين قام الراهب المشلوح إشعياء بعملية القتل المؤسفة تلك.
ضرب البابا تواضروس المثل فى الحكمة حين وجه حديثه لمن يتصورون أنهم بتطرفهم حماة الإيمان، حين قال فى عظته: «الإيمان ليس سلعة لكى نحميه، وحامى الإيمان هو المسيح».
ينبغى أن نعلم أن الكنيسة المصرية ليست شأنا داخليا للمسيحيين فقط، بل هى جزء لا يتجزأ من النسيج الوطنى، وتاريخيا ساهمت الكنيسة فى مشروع الوطنية المصرية الجامع دون أن يكون ذلك لأسباب مسيحية خاصة، بل بوازع وطنى دائما.
كان مسيحيو مصر بعد الاحتلال البريطانى عام ١٨٨٢م - كما هو كل أهل مصر - قد وقعوا فى أزمة تحديد هوية، فالخلافة العثمانية تضعف بشدة، وانتهت أحلامها بنفى عباس حلمى الثانى، تلك الخلافة عاش المسيحيون تحت رعايتها كأهل ذمة كما هو معلوم، وكل المصريين فى تلك الفترة يراودهم حلم الاستقلال من الاحتلال البريطانى، وظهرت مدرستان، الأولى تطلب الاستقلال والعودة إلى الخلافة العثمانية، كما كانت مصر قبل الاحتلال، والثانية تطلب الاستقلال، وبناء دولة حديثة متأثرة بنموذج الحضارة الأوروبية الغربية، خصوصا فرنسا، وما تحمله من معان ديمقراطية، وكان ذلك يعنى أن مبدأ المواطنة هو ما سيحكم العلاقة بين المسلمين والمسيحيين المتعايشين على أرض هذا البلد بدلا من منطق الذمة.
وفى يوم ١١ نوفمبر ١٩١٨م ذهب سعد زغلول، الزعيم الوطنى، ليقابل نائب الملك، طالبا منه أن يرحل الإنجليز عن مصر!، وقتها أدرك المسيحيون خطورة هذا الظرف التاريخى، فذهب مجموعة منهم والتقوا سعد زغلول وهم فخرى عبدالنور، وويصا واصف، وتوفيق أندراوس، اللافت أن أولهم كان واصف غالى، ابن بطرس غالى، رئيس وزراء مصر، الذى اغتيل ١٩١٠م، وقال له سفير بريطانيا فى فرنسا، حيث كان وقتها: «كيف تضع يدك فى يد من قتلوا أباك؟»، فرد عليه واصف غالى: «هذا خير من أن أضع يدى فى يد من قتلوا وطنى!». حاول الإنجليز بكل الطرق أن يستميلوا المسيحيين، لكنهم أدركوا تمام الإدراك أنه لا حقوق لهم فى ظل وطن محتل، وأن مصر أهم من الكنيسة، تتجلى تلك الروح المتقدة بالوطنية فى القمص مرقص سرجيوس، ذلك القس القبطى المصرى العظيم، الذى وقف خطيبا فى الجامع الأزهر أثناء ثورة ١٩١٩، قائلا: «إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم بحجة حماية الأقباط، فأقول لهم ليمت الأقباط ويعيش المصريون المسلمون أحرارا»، تلك الروح المصرية الأصيلة التى ظهرت حين تبادل الشيخ مصطفى القاياتى مع القس سرجيوس الخطابة، فخطب الشيخ فى الكنيسة، وخطب القس فى الأزهر، نموذج آخر فضل فيه المسيحيون الشرفاء الوطن على المصالح الضيقة، حين جاءت وزارة يوسف وهبة - المسيحى - مهادنة للإنجليز، قابلة للقاء لجنة ملنر، التى رفضت الثورة التفاوض معها، وخرجت المظاهرات فى كل مكان تهتف: «ملنر.. ملنر يا أبو وش أحمر.. يوم ماهتيجى يوم ما هترحل»، صدر وقتها بيان رافضا تلك الوزارة الموالية للإنجليز، وقع عليه الكثير من الوطنيين المسيحيين، الأكثر من ذلك أنه تصدى شاب مصرى مسيحى اسمه عريان يوسف، وقام بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء الموالى للإنجليز يوسف وهبة!، تلك مجرد أمثلة لأدوار شديدة الوطنية للكنيسة المصرية وواجب كل وطنى الوقوف مع وحدة وتماسك الكنيسة فى هذه الأزمة الأخيرة.