سعد الدين الهلالي: "الطلاق الشفوي" يدمر المجتمع (حوار)
- أستاذ الفقه طالب البرلمان بعدم الالتزام برأى المؤسسة الدينية وإعلاء مصلحة الوطن
- المتطرفون يهاجمون التجديد لتعارضه مع مصالحهم ورغبتهم فى أن يكونوا أسياد الناس
- بعض رجال الدين من أصحاب «الوصاية الدينية» يقدمون فتاواهم على أنها صواب مطلق
رأى الدكتور سعد الدين الهلالى، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أن الأضرار الناتجة عن الطلاق الشفهى تنذر بتدمير المجتمع وهدم الحياة الأسرية، مطالبا مجلس النواب بطرح القضية للنقاش المجتمعى.
ورأى «الهلالى»، فى حواره مع «الدستور»، أن رأى الأزهر «استشارى» بالنسبة لمجلس النواب وغير ملزم له، مشددًا على أن جميع الفتاوى اجتهادات شخصية لا يمكن التعامل معها على أنها صواب مطلق.
وحذر أستاذ الفقه المقارن من أن «أوصياء الدين» يحاولون فرض سيطرتهم على الناس، منذ عصر العثمانيين، ويظنون أن لهم السيادة على المواطنين.
■ بداية.. كيف يمكن الخروج من إشكالية الخلط بين الشريعة والقانون فى قضية توثيق الطلاق؟
- قبل الحديث عن تلك الأزمة ينبغى الإشارة إلى تعريف «الشريعة»، والتى تعنى «مورد»، أى: المنبع الذى نتوجه إليه لنأخذ الماء، لذلك يقال فى قواميس اللغة العربية «شرعت الإبل» أى ذهبت تشرب الماء وتخزنه لأنها تعيش عليه أياما طويلة فى الصحراء، فالشريعة فى الأصل اللغوى هى «المورد».
وعندما نكتب عقدًا بينى وبينك ونختلف فى أى شىء نرجع إلى هذا العقد، وفى هذه الحالة صار العقد موردا للمتعاقدين، وكذلك عندما يتوافق الجميع على وضع قانون هو فى أصله مجموعة من المواد والفتاوى التى اتفقوا عليها، وكل مادة فيه عبارة عن فتوى مختارة اختيرت من بين مجموعة فتاوى، وفق اتفاق مجتمعى، فإنهم يلجأون إليه عند اختلافهم.
ويفترض أن القاضى يحكم بالقانون، الذى يصبح «مورده» أو «شريعته»، وبعد أن كان هذا القاضى قديما يحكم بثقة الناس فيه وفى عدله وحكمته وعلمه، وُجد- مع تطور الحضارة الإنسانية- أن القاضى مهما كانت إنسانيته ونزاهته وعلمه وحكمته، فإن الحكم فى أى قضية لا بد أن يلتزم بمعايير موضوعية، لذلك قرر المجتمع ألا يعتمد على الذمم فى حكمه، حتى وإن كانت من أفضل وأنقى أنواع الذمم، وفضل الاعتداد بالموضوعية التى يمثلها القانون.
لذا كله، فإن رفض توثيق الطلاق الشفوى يضع القضاء فى حرج، لأن القاضى يصدر حكمه بثبوت الأوراق والأدلة فى القضايا الخاصة بالطلاق والميراث والنفقة وجميع حقوق الزوجة، فكيف يمكن أن يثبت إذا كان قد حدث طلاق أم لا دون وجود هذه الأوراق؟
مفهوم الشريعة به «لبس» كبير، فنحن عندما نتحدث عن شريعة الشعب المصرى فى ساحات القضاء فهى «القانون»، لكن إذا كنت أقصد شريعة الله فهى أمر ثابت وعلاقة مقصورة بين العبد وربه، وكل إنسان حر فى اختيار دينه، أنا أختار الإسلام وجارى يختار المسيحية، ولا يمكن أن نحتكم إلى شريعة أحدنا ونفرضها على الآخر، لأن ذلك يعد جورا واضحا على الحريات والحقوق التى تكفلها المواطنة.
ولذلك اتفقنا جميعا حول مواد القانون ورضينا به واحتكمنا إليه، وأريد أن أوضح أنه لو موظف داخل دار الإفتاء، التى هى مصدر الفتوى فى مصر، تعرض لظلم مثلا من أى نوع أو حدثت له مشكلة مع مرءوسيه، فلن يحل المفتى مشكلته بفتوى، لكن هناك قواعد ولوائح وقوانين يتم العمل وفقا لها فى مختلف مؤسسات الدولة.
وهناك فرق كبير بين شرائعنا الدينية وشريعتنا كمجتمع به أديان وطوائف مختلفة، به مسلم ومسيحى، رجل وامرأة، متدين وغير متدين، فيجب أن نحتكم للقانون أولًا وأخيرًا.
هناك من يريد أن يكتنز الشريعة لنفسه، وهى فى الحقيقة «مورد» يختاره أصحاب الشأن، فالمفتى يُسأل فى الأمور الدينية غير المعالجة فى القانون ويفتى فيها، لكن الفتاوى يجب أن تكون بعيدة عن القانون، ولا يصح أن تكون هناك فتوى تخالف القانون، لأن الفتوى إذا خالفت القانون تكون فردية، والقانون جماعى، فهل يجوز أن نعتد بالأمر الفردى على الجماعى؟.
■ إذا كان الأمر كذلك.. لماذا يصر رجال الدين على الأخذ بآرائهم بعيدا عن القانون؟
- الحقيقة أن بعض رجال الدين من أصحاب «الوصاية الدينية» يقدمون فتاواهم على أنها صواب مطلق، وأن لها السيادة على الآخرين وأن ما دونها خطأ، ويستخدمون بعض نصوص القرآن لخداع الناس ومنها قول الله تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»، فالمقصد من الآية السؤال، وربنا لم يأمرنا باتباع أهل الذكر ولكن سؤالهم.
ومن حق الناس عليهم أن يردوا بتوضيح الأمور جميعها، وللمستمع الحق فى اتباع هذه الفتوى أو غيرها، لأنه لا يوجد صواب مطلق، وكما قلت وأؤكد أن الفتاوى اجتهادات وآراء شخصية غير مُلزمة للناس، وبالمناسبة الله لم يفوض أحدًا ولم يقل إن هناك شخصا واحدا معنيا بالفتوى وهو وحده الصواب، لكن «أوصياء الدين» كل ما يهمهم هو كيف يكونون «أسيادا على الناس».
■ ما رأى الدين فى مسألة توثيق الطلاق؟
- هناك أكثر من رأى فى موضوع توثيق الطلاق الشفهى، لكننى أميل إلى الرأى الذى جاء به الشيخ جاد الحق على جاد الحق، شيخ الأزهر الأسبق، الذى تقدم بمذكرة علمية إلى مجمع البحوث الإسلامية قبل وفاته عام ١٩٩٦، آملًا صدور قرار بعدم احتساب الطلاق الشفهى للمتزوجين رسميًا، بعدما أثبت ضرورة توثيق الطلاق، إلا أن صوت الأوصياء كان الأقوى.
والشيخ «جاد الحق» عاصر ما قبل ١٩٣١ وما بعدها، ورأى الكثير من مشكلات المجتمع التى حدثت، فقبل عام ١٩٣١ كان الزواج والطلاق فى مصر يحدث شفويا، ولكن منذ هذا التاريخ صدرت لائحة ترتيب المحاكم الشرعية بالمرسوم بقانون رقم ٧٨، الذى ينص فى مادته رقم (١٧) على أنه: «لا تقبل عند الإنكار الدعاوى الناشئة عن عقد الزواج فى الوقائع اللاحقة على أول أغسطس سنة ١٩٣١م ما لم يكن الزواج ثابتًا بوثيقة رسمية»، بما يعنى وقوع الطلاق الشفوى على الزوجة الموثق عقد زواجها رسميًا فى سجلات الدولة.
فإذا استدعى الزوجان مندوب الدولة باختيارهما، وتوجهت إرادتهما إلى توثيق العصمة رسميًا بما يجعلهما على بينة من أمرهما، فإن الزوجة فى ظل هذا التوثيق لا تملك فى القضاء الشرعى أمر نفسها ولا تبدأ عدة الطلاق إلا من يوم تحرير طلاقها رسميًا، كما أن الزوج لا يملك فى القضاء الشرعى الزواج بخامسة وعلى ذمته رسميًا أربع نسوة حتى ولو زعم طلاقهن شفويًا.
وكأن الزوج بتوثيقه عقد زواجه رسميًا اشترط على نفسه ألا يحدث طلاق شرعى إلا بالتوثيق الرسمى، ما يجعل طلاقه الشفوى لغوًا، عملًا بما أخرجه البخارى عن عقبة بن عامر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج»، خاصة أن تعريف الطلاق عند الفقهاء هو «حل رباط الزوجية بلفظ الطلاق ونحوه» وليس مجرد التلفظ بالطلاق.
والهدف من توثيق الزواج هو ضمان حقوق الزوجة من الأزواج ذوى النفوس «الخربة»، وهذا ما هدفت إليه المادة «١٧» سالفة الذكر، ولذلك صدر فيما بعد القانون رقم ١٠٠ لسنة ١٩٨٥ المعدل بالقانون رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٩ بشأن بعض أحكام الأحوال الشخصية، وأضاف المادة الخامسة مكرر، التى تنص على أنه: «على المطلق أن يوثق طلاقه لدى الموثق المختص خلال ثلاثين يومًا من إيقاع الطلاق، وتترتب آثار الطلاق من تاريخ إيقاعه، إلا إذا أخفاه الزوج عن الزوجة فلا تترتب آثاره من حيث الميراث والحقوق المالية الأخرى إلا من تاريخ علمها به».
■ هل ظهرت أزمة الطلاق الشفهى بعد قانون توثيق الزواج؟
- بعد توثيق الزواج رسميًا، ظهرت بعض الفتاوى التى تقول إنه فى حالة تطليق الزوج لزوجته التى تزوجها بعقد رسمى شفهيا فإن الطلاق وقع شرعا ولم يقع قانونًا. وهذه مجرد فتوى لكنها ليست شريعة، وعندما نحول فتوى إلى شريعة فهذا أمر غير صحيح وفى غاية الخطورة، فإذا أخذ بها القانون تصبح شريعة فى القانون.
واتضح أن هناك من يخدم فكرة المغالطة ويحاول الوقيعة بين الشعب وقوانين الدولة باستخدام لفظ الشريعة، ويسعى إلى الترويج للفتاوى على أنها شرعية، وأن القانون وضعى، والحقيقة أن الفتوى أيضا وضعية.
■ وماذا عن رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر.. وهل هذه الآراء ملزمة للناس؟
- رأى هيئة كبار العلماء ما أقر به شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب من وقوع الطلاق الشفهى. ولا رأى فى هذه الآراء إلزاميًا، لأن المجتمع يفترض أنه يتعامل مع الرأى الذى يحقق المصلحة الجمعية، وجميع الفتاوى فى النهاية اجتهادات شخصية لا يمكن التعامل معها أبدا على أنها ثواب مطلق.
ويمكن أن نقول إن الأضرار الناتجة عن الطلاق الشفهى كثيرة جدا وتنذر بتدمير المجتمع وهدم الحياة الأسرية وإهدار حقوق الزوجة، لذلك يتوجب على مجلس النواب طرح الموضوع للنقاش المجتمعى وإعلاء مصلحة المجتمع.
وعندما يسأل مجلس النواب الأزهر عن رأيه، فإنه يطلب منه رأيا «استشاريا» فقط حول آراء العلماء السابقين فى المسألة ورأيه الحالى فيها، وعلى الأزهر أن ينسب كل رأى أو فتوى لصاحبها وليس للدين.
■ لكن المجتمع يتعامل مع آراء رجال الدين باعتبارها اقتباسًا من الشريعة ويرى الخروج عليها «ذنبًا».. كيف يمكن إقناع الناس بالتفريق بين الرأى والشريعة؟
- أبوحنيفة كان إمام الأئمة، ومع ذلك وصف ما قدمه بأنه رأى ولم يقل إنه فتوى نهائية، وكذلك الإمام الشافعى قال إن ما نقوله صواب يحتمل الخطأ، فكيف يحاول الفقهاء فى الوقت الحالى تصدير آرائهم للناس على أنها صواب مطلق ولا خطأ فيه؟ كيف نفتى الآن بأن من قال لزوجته إذا خرجت من المنزل فأنتِ طالق فطلاقه واقع رغم أنها متزوجة زواجا رسميا موثقا؟.
ماهية الطلاق تقوم على حل رباط الزوجية بعد أن كان معقودًا، فالواجب عند إثبات الطلاق أو الحكم به أن تتحقق إزالة رابطة الزوجية أو عصمتها على وجه يبدأ الزوجان منه ترتيب ما يعتقدان من حكم دينى، فإذا لم يتمكن الزوجان أو أحدهما من الشروع فى الأثر المترتب على الطلاق بسبب عدم حدوثه على وجه يرتب أثره فلا يجوز وصفه بالطلاق اصطلاحًا، لأن الفقهاء اصطلحوا على تعريف الطلاق بأنه حل رباط الزوجية أو رفعه، وليس مجرد التلفظ به بلفظ مفرغ عن مضمونه لا يحدث رفعًا أو حلًا لرباط الزوجية حقيقة.
والحل يفترض أن يكون بمثل الربط، أى إذا كان الزواج رسميًا وموثقًا فلا يجوز طلاقها إلا بطريقة رسمية موثقة.
■ لماذا تواجه كل فكرة للتغيير أو التجديد بهجوم كبير من رجال الدين والمؤسسات الدينية؟
- لأن المتضرر من الموضوع هم أصحاب المصالح وأوصياء الدين الذين يريدون إدارة الناس وتحقيق السيادة عليهم، على الرغم من أن مهمتهم فى الحياة خدمة الناس، ويفترض أن رجل الدين مثله مثل الطبيب يقوم بعمل إنسانى ويقدم خدمة للناس دون أن تكون له مصلحة فى ذلك ودون أن يبحث عن منصب.
ولكن أوصياء الدين للأسف هم من ساقوا الناس بفتاواهم التى أصدروها على أنها الصواب المطلق كذبًا فى عصور ظلامية شهدتها مصر بعد الاحتلال العثمانى الذى تزعمه التركى عثمان بن أرطغل.
الغريب أن هؤلاء ينسبون الخلافة العثمانية إلى عثمان بن عفان، على الرغم من أنه مات قبل تأسيسها بحوالى ٦٣٠ عاما، ومن أسسها هو شخص تركى يدعى عثمان أرطغل، بعدما تمكن من الاستيلاء على أكثر البلاد العربية، التى كانت فى ظل الخلافة العباسية بأمير قرشى أعلن سنة ٦٩٩هـ الموافق ١٢٩٩م على أن يظل الحكم له ولذريته من بعده بالتوازى مع الخلافة العباسية، التى بقيت حتى سنة ٧٥٠هـ، واستمرت مصر عصية على هذا الاحتلال حتى استطاع السلطان سليم الأول أن يضمها للعثمانيين سنة ٩٢٣هـ الموافق ١٥١٧م، إلى أن أعلنت الخلافة العثمانية إسقاط نفسها وانهيارها رسميًا سنة ١٣٤٣هـ الموافق سنة ١٩٢٤م.
وظلت مصر حوالى ٥٠٠ سنة يحكمها العثمانيون بالوصاية الدينية فقط، ونجح العثمانيون فى خداع الناس وإقناعهم بأن هذه الفتاوى من الدين، وذلك بهدف السيطرة عليهم.
لذلك كان من الطبيعى أن تلقى أى دعوة لكسر الجمود أو تغير هذا الفكر هجوما حادا من قبل رجال الدين، الذين يعتبرون أنفسهم أسيادًا على الناس ويحاولون أن يعيدوا عصورهم الظلامية بنفس سلاحهم القديم الفاسد، وهو الوصاية الدينية وإدارة شئون الناس بالفتاوى الانتقائية، التى تحقق للأوصياء هدفهم من السيطرة على الناس وإعادة ملك خلافتهم الساقطة باسم الدين أو باسم الإسلام.
وإذا كان هؤلاء الأوصياء وأذنابهم قد نجحوا فى جولة بتغرير الناس والتدليس عليهم حتى سرقوا ملكهم قرونا عديدة، فقد آن الأوان لعامة الناس أن يستردوا سيادتهم على أنفسهم، عملًا بما أخرجه ابن عدى فى «الكامل» بسند حسن عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «كل بنى آدم سيد»، وما أخرجه أحمد بسند حسن عن وابصة بن معبد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال له: «استفت قلبك. البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك فى القلب وتردد فى الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك».
ما الرسالة التى توجهها إلى مجلس النواب وهو يستعد خلال الفترة المقبلة لمناقشة مشروع قانون توثيق الطلاق الشفهى؟
- على مجلس النواب أن يراعى فى النهاية مصلحة المواطن وله الحرية المطلقة فى اختيار رأى معين وترك الآخر، الاختيار للشعب وليس للمفتى أو صاحب الرأى، لأن دوره ينتهى بتقديم الفتوى فقط دون دعاية أو تجميل أو حتى مجرد تلميح بأنها الرأى الصواب، فهذه آراء ونتاج اجتهادات، والشعب حر فى أن يقبلها أو يرفضها، وفقا لما تقتضيه المصلحة العامة.