رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشقيقتان.. اعترافات فريدة وأمينة النقاش

جريدة الدستور

- أخذت عهدًا على نفسى باستكمال المشروعات المؤجلة لـ«صلاح»
- صلاح بكى على رحيل عبدالناصر من داخل سجونه
- نشأت فى بيت فقير ماديًا غنى بالكتب
- رفعت السعيد كان مؤمنًا بـ«نظرية الأسقف المنخفضة»


حين سمعت اسم زوجها الكاتب الراحل صلاح عيسى بكت بشدة، أرادت أن تقول له فقط: «واحشنى جدًا».
هى واحدة من بين أربعة حملوا على عاتقهم تأسيس جريدة «الأهالى» صوت اليسار الصاخب فى السبعينيات والثمانينيات. إنها الكاتبة الصحفية أمينة النقاش، التى تكشف فى حوار مع «الدستور» بعضًا من الزوايا الإنسانية واللحظات الأسرية التى عايشتها فى منزل الأسرة مع والدها وشقيقيها «فريدة» والراحل «رجاء» وداخل جدران بيت الزوجية مع الراحل صلاح عيسى.

■ بداية.. لو تحدثنا عن الجذور الأولى والنشأة ماذا تقولين؟
- نشأت فى بيت فقير من حيث الإمكانيات المادية، ثرى بأدوات المعرفة ملىء بالكتب، وبالرغم من تلك الأحوال المالية الصعبة، أصر والدى على تعليمنا، فالوالد كان رجلًا سابقا لعصره، ويمتلك قدرًا كبيرًا من الثقافة، بجانب إلمامه بالتراث الإسلامى بجوانبه المستنيرة.
وإذا كانت تلك العوامل مجتمعة نجحت فى أن تجعلنا نحطم «تابوهات» فكرة تعليم المرأة حينها، لكن يبقى هناك فضل كبير منسوب للنظام الناصرى الحاكم حينها، بعدما أتاح أمامنا مجانية التعليم.
■ ماذا عن شقيقك الكاتب الراحل رجاء النقاش وتأثيره فى تكوينك الفكرى والثقافى؟
- رجاء النقاش لعب الدور المهم فى حياتنا إن لم يكن الأهم، فهو رجل شأنه شأن كل الأسُر التى تنتمى إلى الريف، ذهب يسعى إلى العمل وهو طالب، بحثًا عن مساعدة الأهل ودعمهم، وتلك واحدة.
أما الثانية، أعتبر أن تشكيلى الفكرى والثقافى صنعه رجاء النقاش، فهو السبب فى أن يجعل قلبى معلقًا بالتردد على المسارح ودار الأوبرا، وتلك واحدة من أهم الفضائل التى لا أنساها له.
■ شقيقتك «فريدة» قالت إن علاقتها بـ«رجاء» كانت أشبه بالمد والجزر فى فترات كثيرة.. هل واجهتِ نفس الأمر؟
- لا، لم يحدث ذلك، فـ«رجاء» كان يشعر بالمسئولية تجاهى، ربما لكونه يكُبرنى بسنوات، لذا كان يتعامل معى بمنطق الأب، وكانت علاقتى به حميمية فى أغلب الأحيان، عكس «فريدة» التى كانت تقريبًا فى نفس عمره، وهو ما كان سببًا فى وجود اختلاف كبير بينهما فى وجهات النظر.
■ لكن ألم يعارض ارتباطك بالكاتب الصحفى الراحل صلاح عيسى؟
- بالفعل، «رجاء» كانت لديه تحفظات على ارتباطى بـ«صلاح عيسى»، بالرغم من أن التعارف الأول بيننا جرى داخل منزله، وسبب اعتراضه كان نابعًا من الظروف القاسية التى كان يمر بها «عيسى» خلال تلك الفترة.
ففى تلك الآونة، كان صلاح عيسى مفصولًا من عمله ومطاردًا من البوليس، وحياته تتقلب على كف عفريت، لكن بفضل تمتعى بشخصية مستقلة فى التفكير، صممت على الارتباط به، وكان إصرارى نابعًا من تمسكه الشديد بالارتباط بى.
وبعد فترة من الزمن، نمت علاقة الود بين كل من «صلاح» و«رجاء»، وأصبح كل منهما يدين بـ«دين الحب» تجاه الآخر.
■ إذا كان رجاء النقاش صاحب بصمة كبيرة على مشروع أمينة النقاش، فماذا عن دور الشقيقة الكبرى «فريدة»؟
- فريدة النقاش هى أمى وأختى ومعلمتى، وهى نموذج للناقدة النزيهة المثقفة، وفتحت الباب أمام أجيال كثيرة للتعلق بالمسرح، وكل ما أتمناه منها هو ألا تتوقف عن الكتابة أبدًا، وأقول لها «بحبك وبموت فيكى».
■ بصراحة.. عندما قررتِ الارتباط بـ«صلاح عيسى».. ألم تنتبك رهبة الفشل؟
- إطلاقًا، فبالرغم من الظروف شديدة الضبابية التى أطاحت بيننا أثناء الزواج وبعده مثل وفاة والدى وحزنى الشديد على رحيله، غير أننا تحدينا الأوضاع القاسية. وأذكر أن فرحنا اقتصر على كتب الكتاب عند المأذون، لأن حبى لـ«صلاح» كان أكبر من أى شكليات.
■ كيف تمكن صلاح عيسى من أن يضفى صبغته الخاصة عليك فيما بعد؟
- صلاح عيسى هو من ألهمنى رؤية الحكم على الأشياء، فهو بحكم كونه مستنيرًا ومثقفًا وذا نزعة وطنية شديدة، نجح فى أن يُضفى تلك العوامل على شخصيتى. هو رجل الآمال الكبرى فى حياتى، ويكفى أنه نجح فى تعويضى عن نعمة فقدان والدى، وهذا على مستوى الحياة.
بينما على المستوى الصحفى، أفاض علىّ بالكثير، فأخلاقيات المهنة وعلى رأسها الدقة والإخلاص والنظر إلى فضائل الناس حتى وإن كنت مختلفًا معهم، شربتها من صلاح عيسى، بجانب أنه أول من عمق بداخلى فكرة أن كل جهد حقيقى يبذل دائمًا ما تكون له نتيجة إيجابية.
■ كيف تحتفظين باحترام وتقدير وحب جمال عبدالناصر، رغم ما فعله فى زوجك صلاح عيسى؟
- هذه ميزة من أهم الميزات التى التقطتها من صلاح عيسى واليسار المصرى، وهى النظرة الموضوعية فى الحكم على الأشياء، فعندما رحل «عبدالناصر» كان «صلاح» حينها مسجونًا، ومع ذلك بكى بكاءً شديدًا على رحيله.
بالرغم من اختلافنا مع «عبدالناصر» حول طريقة تطبيق الديمقراطية، لكننا بالفعل كان لدينا اقتناع بأننا أمام نظام وطنى، أجاد تطبيق سياسة الاستقلال الوطنى، وراعى البعد الاجتماعى بين الطبقات.
فى حين أنك تجد مثلًا الرئيس السادات، أضاع بالسياسة المكاسب الاجتماعية، وكان سببًا رئيسيًا فى هدم مشروع ثورة يوليو، لكننا لا ننكر أن عهده لم يكن به تعذيب داخل السجون.
■ هل عندما حانت لحظة رحيل صلاح عيسى، كان مقتنعًا بأنه حقق مشروعه الصحفى والثقافى؟
- للأسف لا، صلاح عيسى لم يقدم كل ما تمناه، فكان لديه مشروع ثقافى حقق جزءًا منه على صفحات جريدة «القاهرة»، بجانب ذلك كان لديه مشروع تقديم التاريخ بأسلوب روائى جديد سلس، يعتمد على استخلاص الدروس من رواياته واعتمادها طريقًا للمستقبل. وقد أخذت عهدًا على نفسى بنشر كل الكتب التى لم يتم نشرها، واستكمال مشروعاته المؤجلة.
■ لو طلبنا منك أن توجهى رسالة أخيرة إلى صلاح عيسى.. ماذا تقولين؟
- بمجرد أن وقع السؤال على مسامعها، دخلت فى نوبة شديدة من البكاء، جعلتنى أشعر بالخجل الشديد، وعندما طلبت منها أن نتجاوز عن ذلك رفضت واستجمعت نفسها لتقول: «واحشنى جدًا، وأتعهد إليك طالما بقى فىّ نفس بالوفاء».
■ باعتبارك واحدة من أيقونات اليسار فى مصر.. ماذا حدث لذلك التيار؟
- تراجع اليسار ناتج عن الهجوم الضارى للأنظمة الحاكمة عليه، بجانب الدعاية المسمومة التى شنتها القوى الرجعية فى المجتمع، وإيهام الجماهير بأننا مجموعات تسعى لهدم الثوابت الدينية، وذلك بسبب خشيتها من دعوتنا لبناء دولة ديمقراطية حديثة.
■ لكن ألم يتحمل الراحل رفعت السعيد الوزر الأكبر مما حدث للتيار اليسارى فى مصر؟
- لا، رفعت السعيد كان لديه اجتهاد خاص، وهذا الاجتهاد لم يكن يحظى برضا عناصر يسارية كثيرة، فقط كان «السعيد» مؤمنًا بـ«نظرية الأسقف المنخفضة» القائمة على «ضرورة أن تحسب قوتك قبل الصدام، وتخفض حركتك كى تستمر». وسيبقى دومًا شخص رفعت السعيد محل جدل كثير فى الساحة السياسية.
■ هل من الممكن أن نرى لـ«أمينة النقاش» مؤلفات خلال الفترة المقبلة؟
- لدىّ أمل كبير فى أن أسطر كتابًا عن تجربتى فى جريدة «الأهالى»، بالإضافة إلى ذلك فإننى أستعد لطرح كتاب عن صلاح عيسى خلال الفترة المقبلة.
■ لو طلب منكِ أن توجهى رسالة أخيرة.. لمن تكون؟
- رسالتى الأخيرة ستكون إلى القوى المدنية، فهى مطالبة بتوحيد جهودها، لأن مصر لا تصلح إلا أن تكون دولة مدنية ديمقراطية حديثة، قادرة على مكافحة قوى الظلام ممن أوردوا الوطن المهالك هم ومن على شاكلتهم من «عاصرى الليمون».

- فريدة النقاش: رجاء رفض زواجى من حسين عبدالرازق وقالي "هيوديكي السجن"
- رفعت السعيد «براجماتى» ودائمًا ما كان يبحث عن «المكاسب الوقتية»
- والدى هو صاحب البصمة الكبرى فى حياتى بجانب أخى

قرأت ديوان المتنبى فى عمر الـ١١ عامًا فقط، وبتشجيع من والدها ثارت على رفض فكرة «عدم تعليم البنات»، فالتحقت بمدرسة «الأورمان»، حيث جمعت ما بين تلقى العلم والرياضة.
إنها الكاتبة الكبيرة فريدة النقاش، اليسارية الشهيرة، وأول سيدة تصبح رئيسة تحرير لجريدة «الأهالى»، التقتها «الدستور» فى حوار ثرى، سردت فيه جانبا كبيرا من حواديتها المهنية، وكواليس سيرتها الإنسانية.

■ دعينا نبدأ الحوار من حيث تنتهى الأحداث.. هل تقف جريدة «الأهالى» الآن على شفا الإغلاق والتصفية؟
- ليس صحيحا على الإطلاق، فالأزمة التى تُعانى منها «الأهالى» ليست إلا امتدادا لمشكلة كبرى تعصف بعالم الصحف الورقية فى مصر والعالم، نتيجة ارتفاع أسعار الورق والطباعة.
وبالرغم من أن الجريدة تكتظ بعدد كبير من الإعلانات، لكن أزمة عدم وجود تمويل قادم من حزب التجمع وضعتها فى مرمى نيران الأزمات، بالإضافة لذلك «الأهالى» تدفع ثمن فقدان ثقة الجماهير فى «اليسار»، خاصة أن التيار لم يعد قادرًا على تقديم حلول للمشكلات التى يئن منها الشارع.
■ بذكر «اليسار».. هل يمكن القول إن ذلك التيار انتهى عصره وأوانه؟
- أزمة «اليسار» جزء من الأزمة العامة فى مصر المتمثلة فى غياب الحريات، أو «تغييبها» على وجه التحديد، وعندما تعود بالذاكرة إلى الوراء وتضع بين يديك المبادئ الستة لثورة يوليو، تجد أن فكرة إقامة حياة ديمقراطية سليمة، مبدأ لم ينجح الكفاح الوطنى المصرى فى تحقيقه، وهو ما أصاب الطبقات الوسطى والشعبية بفقدان القدرة والأمل الكبير فى التغيير.
■ لكن ألم يجن «اليسارى» على نفسه عندما قرر بعض رموزه الارتماء فى أحضان السلطة وعلى رأسهم الراحل رفعت السعيد؟
- بالتأكيد، وكنت دائما فى خلاف مع رفعت السعيد، بالرغم من الصداقة التى تجمعنا، فهو عبارة عن شخص براجماتى يفكر بطريقة عملية جدًا، ودائما ما كان يبحث عن المكاسب الآنية دون النظر إلى الخسائر التالية، لكن ربما خوفه على حزب «التجمع» هو ما دفعه إلى ذلك.
■ بعيدًا عن «اليسار» وأزماته التى لا تنتهى.. ما الذى تتذكرينه عن حياتك الأولى؟
- فى قريتى «منية سمنود» بالدقهلية كانت لنا أيام، إذ نشأت فى أسرة كبيرة مستورة، كانت تعشق القراءة، وكان الراحل والدى ينظم ندوة فكرية أسبوعية، وكنت أحرص على حضورها بالرغم من صغر سنى.
وخلال تلك الفترة نجحت فى قراءة ديوان «المتنبى» وأنا ابنة ١١ عاما، وكانت تلك القراءات سببا فى خلق تحدٍ ضمنى بداخلى لاستكمال تعليمى، حيث كان هدفى حينها تحطيم «التابوهات» السائدة عن المرأة.
■ إذا كانت مكتبة الوالد قد أثرت تفكيرك وشكلت وجدانك.. فهل شقيقك المفكر الكبير رجاء النقاش صاحب البصمة الكبرى على تكوينك الثقافى؟
- «لا»؛ فصاحب البصمة الكبرى والفضلى والعظمى على مشروعى هو والدى، لكنى أقر دومًا بأن رجاء النقاش قد فتح أبواب الثقافة على مصراعيها أمامى، ودفعنى نحو القراءة، وشجعنى نحو كتابة الشعر والقصة.
ومع ذلك فإن رجاء النقاش كان مصرًا على التحاقى بالمدرسة الفنية النسائية، لكننى لم أنصع لرغبته وقررت الالتحاق بمدرسة الأورمان، التى مارست بين جدرانها فنون العلم والرياضة، فى وقت كانت المدارس حينها «تربى وتعلم».
■ نصف «فريدة» الآخر الكاتب الصحفى حسين عبدالرازق.. كيف ترين دوره فى حياتك؟
- حسين عبدالرازق أول أزمة كبيرة نشبت بينى ورجاء النقاش، فقد كان معارضًا لزواجى منه، وحدثنى قائلًا: «الراجل ده هيوديكى السجن»، لكننى رفضت ما قاله وحدثته قائلة «كل واحد من حقه يختار حياته».
وبالفعل تزوجنا، ومضت الأمور على حالها، واستطاع «عبدالرازق» أن يُضيف لى الكثير، ونجح فى تعميق اختيارى نحو الاشتراكية، وفتح أمامى آفاقا للاطلاع على آداب العالم الثالث.
■ إذا كانت تجربة «الأهالى» يعود إليها الفضل فى صناعة اسم فريدة النقاش، فكيف ترين تجربة «أدب ونقد»؟
- فترة عملى فى رئاسة تحرير «أدب ونقد» كانت تجربة غنية جدًا وشديدة الثراء، فالمجلة عندما خرجت للنور عام ١٩٨٤، نجحت فى أن تجمع الشتات الذى يعانى منه الحالمون بالكتابة الثقافية والفنية، فحينها لم يكن هناك أى مجلة تهتم بالشأن الثقافى.
عندما أصدرنا مجلة «أدب ونقد» اعتقد الجميع أنها عبارة عن مجلة حزبية، ستقتصر صفحاتها على أعضاء «التجمع»، لكنها نجحت فى كسر تلك المعتقدات، فقد فتحت باب المغامرة الأدبية أمام الجميع، شريطة أن تكون مغامرة فنية.
ونجحت «أدب ونقد» فى أن تكون نواة ومهدا لعدد من الموهوبين والمبدعين، الذين صاروا نجوما فيما بعد.