تحت البلاطة
صديقى رجل شجاع لدرجة الحماقة، أخبرته كثيرًا بضرورة تجنب السير فى الطريق المختصر المتصحر بين البنايات الممتلئ بجحور الثعابين والأفاعى السامة والكلاب الضالة، لم يستمع إلى نصيحتى، لديه شغف جارف بالاختصار والتعجل، ذات مرة لدغه ثعبان غير سام، وأخرى هجم عليه كلب ضال، عقر مؤخرته ذات ليلة سوداء، ارتعب ساعتها، ذهب إلى المستشفى فى ساعة متأخرة لتبتلع عروقه المصل المضاد لسعار الكلاب. ومع ذلك مستمر فى غيه، لا يستمع إلى كلام أحد. أخبرنى ذات يوم برغبته فى عمل مشروع تجارى، يجلب بضاعة من الخارج للفتيات الأثرياء «ملابس داخلية أو أندر وير حريمى»، سوف يحقق أرباحًا كبيرة. هيئته المشعثة وهندامه المهلهل لا يشيان بإمكانية تحقيق تلك الرغبة من وجهة نظرى، لكنه مصر على افتتاح المتجر قريبًا وجلب السراويل وقمصان النوم للفتيات والنساء من أحد محلات لندن الشهيرة، لكن الأمر الذى تعمد عدم لفت انتباهى إليه أنه سوف يحصل على قرض كبير من أحد الأشخاص المجهولين، وسوف يسدده من أرباح المشروع. لم أستغرق فى الدهشة والاستغراب كثيرًا، يومان اثنان فقط مرا واختفى معهما صديقى، لا حس ولا خبر، تقعرت انشغالاتى، لم أعد أهتم بانفراط الأيام والأحداث، صديقى الوحيد الذى يؤنس غربتى فى هذا العالم تبخر فجأة وراحت معه مساحة الإزعاج والأخبار التى يمدنى بها، وتشعرنى بأنى متصل بهذا العالم العجيب. من المهم جدًا أن يكون للمرء شخص، مثل هذا الصديق، ثرثار، واسع الخيال، ومغامر من طراز فريد. لكنه مزعج كثيرًا، يشعرنى دائمًا بأننى أعيش خارج العالم. جاء صوته عبر الهاتف ذات مساء يخبرنى فيه بضرورة أن يلقانى حالًا، فالأمر لا يحتمل التأجيل، ساعتان فقط انصرما وطرق الباب بشدة، أعيش وحيدًا فى شقتى المتواضعة بإحدى المدن الجديدة المنفصلة عن القاهرة عاصمة أم الدنيا بعشرات الكيلومترات، كان يقف أمامى، شخص آخر غير الذى أعرفه، شارب كما القوس المقلوب متصل بلحية خفيفة، كما الدائرة الهندسية ووجوم مقلق ثم دموع انفرط عقدها، بمجرد أن ارتمى فى حضنى. فى داخل شقتى المتواضعة الخالية من الأثاث تقريبًا بعد أن استولت عليه زوجتى بحكم قضائى قبل هجرها لى بعد ستة أشهر زواجًا فقط. تقول إنى مخلوق خجول لا يغادر غرفته، ولا يتحدث معها، ولا يعاشرها معاشرة الأزواج. هذا ما قالته فى المحكمة واقتنع به القاضى. لم أعبأ بكل ذلك. ظل صديقى الثرثار صاحب الخيال الواسع بجوارى لم يتركنى ثانية واحدة، منيت بفيض هائل من ثرثرته وأفكاره الجريئة أيامها، أخبرنى ذات مرة بأنه يمكن أن يساعدنى فى استدراج زوجتى إلى مكان ما وترتيب فضيحة جنسية كبيرة لها يمكن على إثرها مقايضتها على التخلى عن كل القضايا التى رفعتها ضدى والتزام الصمت والانصراف فى هدوء. لم تروقنى الفكرة ولا جنونه الجامح، رضخت لكل ما قالت به المحكمة، وأنا عادة أرضخ لأى شىء وكل شىء، على العكس من صديقى الثرثار المغامر. جلسنا على قطعة من القماش افترشها فى منتصف الصالة فى مواجهة باب الشقة المصفح الذى اضطررت إلى جلبه بسعر باهظ بعد تسلمى الشقة خشية سرقتها أو احتلالها بواسطة الأغراب، الذين يتلصصون وينتهزون الفرص لاحتلال الشقق الخالية فى المدن الجديدة هذه الأيام. هذه القطعة من القماش تستهلك كل حياتى تقريبًا، جلوس، رقاد، نوم، وحتى عندما تعلقت بذراعى إحدى الفتيات ذات مساء، بينما كنت أفتح باب الشقة، أجلستها ورقدنا معًا فوق قطعة القماش المهترئة. صديقى تدور عيناه الجائعتان فى جوانب الصالة، يبحث عن شىء ما ربما مدفون تحت البلاط. جلسنا على الفرشة القماش، ما يزال بصره يخترق البلاط، طلبت منه أن يتكلم، قام يتمشى فى الصالة، تركته وشأنه، دخل المساحة التى كانت غرفة نومى مع الغادرة زوجتى. ثم عرج على المساحة التى كانت غرفة الصالون، ثم دخل المطبخ، صنع كوبين من الشاى. عاد بنفس النظرة، البحث فى باطن الأرض. انتظرت مباغتته دون جدوى، ما يزال يحملق فى بلاط الأرض، مضى نصف النهار، شربنا الشاى والقهوة، انتظرت أن يتحدث، لم ينطق، اضطررت أنا أن أنطق، طلبت منه تفسيرًا لمهاتفتى وزيارتى وحملقته الدائمة فى بلاط الشقة. عاد لمواجهة عيناى، شاربه ولحيته الجديدان لم يتمكنا من طمس ملامحه. أخبرنى بفشل مشروعه لبيع ملابس النساء الداخلية، قال: «كل شىء مضى على ما يُرام، افتتحنا متجرنا فى أحد المولات العظيمة فى مدينة ٦ أكتوبر، ملأناه بآلاف القطع التى جلبناها من محلات هارولدوز فى لندن والمنسوبة لأعظم الماركات العالمية، انتظرنا تزاحم الفتيات والنساء للاستحواذ على بضاعتنا، مضى الأسبوع الأول، بعنا فيه قطعتين اثنتين فقط، والثانى والثالث والرابع لم نبع شيئًا، ولا قطعة تصور. عجزنا عن تفسير الأمر، انشغلنا بالخسارة الكارثية المقدمون عليها، شريكى وصاحب رأس المال فقد صوابه، بعد أن ضربنى على رأسى ومؤخرتى، قدم الشيكات التى وقعت عليها نصيب مساهمتى فى رأس المال إلى النيابة. أنا الآن فى انتظار السجن». كاد الظلام يلف الكون فى الخارج، استقمت رافعًا جسدى لإضاءة المصباح، تساءلت عن البضاعة ولماذا لم تسوقوها فى محلات أخرى؟»، أطرق برأسه إلى الأرض مرة أخرى، زام، غمغم بعبارات ثقل عليا فهمها، وأخيرًا استعاد عيناى فى عينيه، قال: «ذهبت أبيع القطع للمحلات أخبرونى بأنه لم تعد هناك سوق لملابس النساء الداخلية، توقفت الفتيات والنسوة عن ارتداء الملابس الداخلية حسب الموضة الجديدة! باغته مندهشًا «وماذا يرتدون الآن؟»، لا شىء، هكذا أجابنى بعد أن أطرق فى الأرض مرة أخرى. لم يتركننى أتمم دهشتى، جرى بسرعة نحو المطبخ، جاء فى يده شاكوش صغير، ظل يخبط البلاط أمامى بقوة وعنف، مرددًا: «هاطلع الفلوس اللى تحت البلاطة عندك، مش هادخل السجن» الدقات تتسارع، والدهشة تتواتر، حاولت إيقافه بإصرار، ظل يخبط الأرض بإصرار، عيونه نارية، ذراعه مثل لوح من الخشب الزان القوى، وصدره ينفث براكين رهيبة من الغضب والقهر. عاجلنى بضربة شاكوش على رأسى، أصبح وحيدًا فى الشقة يفعل ما يشاء دون إزعاج. استعدت وجودى بعد عدة ساعات، رعبنى لون الدم المضمخ على رأسى وجبهتى وعلى الأرضية. لم يكن موجودًا فى الشقة، لكن الخراب والتدمير كانا حاضرين بقوة. بلاط الأرضية تم اقتلاعه بالكامل، وكذلك الأدوات التى كنت أستخدمها فى مطبخى، باختصار لم يعد هناك شىء يصلح للحياة.