رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحرب على الفساد


دائمًا ما يفكر كبار المسئولين فى سن مزيد من القوانين لمحاربة الظواهر والجرائم التى تضر بالمجتمع واعتبار أن سن القوانين هو العلاج الساحر والناجع الذى سيقضى على المخاطر والجرائم. ‏نعم للقانون تأثير رادع ولكنه، من وجهة نظرى، يكون الخطوة الأخيرة وتسبقه وتلازمه سلسلة من الإجراءات.‏
نحن نعرف أن «الوقاية خير من العلاج»، فالدواء الذى يتناوله المريض ليشفى من مرضه هو الخطوة الأخيرة والتى بالتأكيد تتكلف الكثير، ومن الممكن تقليل هذه التكلفة مع الحفاظ على الثروة ‏البشرية إذا ما اهتممنا بالتوعية الصحية من جهة واهتممنا بحياة البشر بتوفير البيت الصحى المناسب الذى تدخله الشمس وبه منافذ التهوية والإنارة وبه مياه نظيفة وصرف صحى، هذا بجانب التزام ‏الدولة بتوفير دخل مناسب للأسرة المصرية يمكنها من تلبية احتياجاتها الضرورية والأساسية وتوفيرالرعاية الصحية للطفل منذ ولادته وتعليمه، كل ما سبق سيقلل من الأمراض ويساعد على تنمية ‏الثروة البشرية لتشارك فى بناء المجتمع.‏
هذا المثل الذى أوردته وفسرته لأوضح فكرتى عن محاربة الفساد المتجذر فى مجتمعنا وهى هل محاربة الفساد مقتصرة فقط على تقديم الفاسدين للمحاكمة وتوقيع العقوبة عليهم أم بوضع خطة ‏لاستئصال جذور الفساد من قلب المجتمع وباطنه مع حرث الأرض وتهويتها لإعادة غرسها بالقيم والأخلاق وإرساء العادات والتقاليد الصحيحة والسليمة مع إعلاء دولة القانون؟!.‏
إن الحرب على الفساد تقتضى «بجانب سن القوانين الرادعة وتنفيذها» تنقيح وإلغاء القوانين والقرارات واللوائح التنفيذية الحالية والتى تم سنها عبر سنوات لتقنين أنواع وأشكال الفساد المختلفة وذلك ‏لترهل جهاز الدولة مع تفشى المحسوبية والوساطة وتوريث الوظائف واختيار أهل الثقة على حساب أهل الكفاءة، بل وضع لوائح تُمكِّن من الاستيلاء على المال العام تحت مسميات بدل جلسات ‏ومكافآت والحصول على نسب من أموال الصناديق الخاصة والأموال التى يتم جمعها من الضرائب غير المباشرة التى يدفعها المواطنون مثل الرسوم المفروضة على الخدمات، رغم أن هذه الرسوم ‏والضرائب تعتبر إيرادات للدولة من أجل الصرف على الخدمات والمرافق. إننى أعتبر هذا فسادا وإفسادا مقننًا.‏
وإذا انتقلنا لنوع آخر من فساد السياسات والذى يؤدى إلى تفشى الإحساس بالظلم وعدم العدالة، وهو الخلل الجسيم فى هيكل الأجور والمستمر حتى الآن، حيث أشارت إحصاءات ٢٠١٢ و٢٠١٣ ‏إلى أن موظفى الإدارة العليا والذين لا يتعدى عددهم ٢٠ ألفا يتحصلون على ٤٠٪ من إجمالى بند الأجور، فى الوقت الذى يتحصل أكثر من ستة ملايين موظف وموظفة على ٦٠٪ من إجمالى بند ‏الأجور، هذا بجانب استمرار الخلل والفجوة بين الحدين الأدنى والأقصى للأجور، والذى لم يطبق فعليًا حتى الآن، حيث الحد الأدنى وفقا لقانون الخدمة المدنية ٨٤٠ جنيها والحد الأقصى ٤٢ ألف ‏جنيه أى (١- ٥٠) رغم أن الدول الكبرى لا يزيد فيها على (١ -١٤) فى أمريكا (١- ٩) فى اليابان.‏
مثال آخر على أحد أشكال السياسات الفاسدة وهو تفشى الإهمال دون أى محاسبة، خاصة الإهمال الذى يتسبب يوميا فى حصد الأرواح البشرية مثل حوادث الطرق والقطارات وانهيار المنازل ‏على رءوس البشر، وفى كل مرة تتكون لجان من المهندسين المتخصصين ويصفون روشتة العلاج ولا يتم تنفيذها ولا يحاسب أحد، فتتكرر نفس الحوادث دون اعتبار للبشر الذين يشكلون الثروة ‏البشرية ويتفشى الإهمال مع الترهل فى الجهاز الحكومى مع عدم محاكمة المسئول، باعتباره متحملا المسئولية السياسية وليست الجنائية بحكم منصبه. وهناك سبب رئيسى يساعد على استمرار الفساد ‏والإفساد هو عدم المحاسبة والمساءلة بل عقاب من يبلغ عن وقائع فساد فى بعض المؤسسات «وجعله عبرة لمن يجرؤ على التبليغ» بنقله من عمله إلى مكان بعيد أو إيقافه عن العمل أو تلفيق تهم ‏له، وذلك لاستبعاده حتى تستمر منظومة الفساد فى أمن وأمان، لأن الفاسدين يُحصّنون أنفسهم بدائرة من الفاسدين عديمى الضمير المستفيدين والمتربحين، وبذلك يأمنون العقاب.‏
وفى السنوات الأخيرة صدر قانون فى مارس ٢٠١٥ ينص على المصالحة مع ناهبى المال العام، رغم أن الدول التى تنص قوانينها على التصالح تحظر المصالحة فى جرائم نهب المال العام.‏
كما أنه ومنذ مجىء مجلس النواب لم نسمع أو نر استخدام النواب حقهم فى الرقابة بتقديم استجوابات أو محاسبة المسئولين، غير واقعة الفساد الخاصة بالقمح. ولم يستخدموا حقهم التشريعى فى ‏إصدار قانون المحليات وإجراء انتخابات المحليات حتى تنصلح الأحوال فى جميع عموم البلاد ونقضى على فساد المحليات. ولم يتم حتى الآن إنشاء مفوضية عدم التمييز التى ستقضى على أشكال ‏كثيرة تفسد الوئام والسلام الاجتماعى.‏
إن انهيار الدول يا سادة يكون أحد أسبابه الرئيسية اختيار أسوا المسئولين فى مناصب اتخاذ القرار. ولقد لاحظنا فى الفترة الأخيرة مسئولين متنفذين فى الدولة، منهم وزراء ومحافظون، تم إلقاء ‏القبض عليهم بتهم الاستيلاء على المال العام، والسؤال: كيف تم وصولهم وتعيينهم؟.‏
إن استئصال جذور الفساد يقتضى إلغاء القوانين والقرارات واللوائح التنفيذية التى تساعد على استشراء الفساد، وذلك بجانب تفعيل الرقابة الشعبية ووضع قوانين رادعة وتنفيذها حتى يتم إرساء ‏العدالة فى المجتمع مع سرعة إصدار القوانين الخاصة بحق المعرفة وتداول المعلومات وانتهاج مبدأ الشفافية والمصداقية عند التعامل مع مواطنى الدولة، ولا بد أن نعرف يا سادة أنه لا تقدم ولا ‏تنمية دون القضاء على الفساد، وأن محاربة الفساد واجب قومى كمحاربة الإرهاب.‏