رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"من الحب للخلاف".. قصة الأب متى المسكين مع البابا شنودة

الأب متى المسكين
الأب متى المسكين مع البابا شنودة

نال شهوة قلبه السماوية، فى الوقت الذى حلت عليه يد الغدر بالقتل، دون سابق انذار، لم يكن شخصًا عاديًا، بل كان رئيس دير، أشتهر عن سائر الأديرة بنهج مختلف، وشهد سنين طويلة من انعزاله عن العالم الخارجى، باحثًا عن الزهد والتجرد، من كل ما هو عالمى، للأرتباط بالخالق وحده.

بخطوات هادئة وقلب بسيط وبالقرب من فجر، يوم الأحد 29 يوليو الماضى، سار الأنبا إبيفانيوس، أسقف ورئيس دير الأنبا مقار، ببيرية شهيت، الذى يقع بوادى النطرون، من قلايته إلى الكنيسة، فقد حان ميعاد الصلاة والتسبحة الليلية، ضربه أحدهم بأله حديدية على رأسه، قتله فى الحال بتهشم الجمجمة، الأمر الذي جعل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تستدعي النيابة العامة.

10 أيام متتالية مرت على مقتل الأسقف المستنير بالعلم، أحد تلاميذ القديس "متى المسكين"، حتى صارت دمائه تتحدث، فأصدر البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، عدة قرارات حاسمة للرهبان، كان أبرزها إيقاف رهبنة أو قبول أخوة جدد فى جميع الأديرة القبطية الأرثوذكسية داخل مصر لمدة عام يبدأ من أغسطس 2018، وتحديد عدد الرهبان فى كل دير بحسب ظروفه وإمكانياته وعدم تجاوز هذا العدد لتجويد العمل الرهبانى.

ومن ضمن قرارات البابا تواضروس، إيقاف سيامة الرهبان فى الدرجات الكهنوتية "القسيسية والقمصية، لمدة ثلاث سنوات، والذى تبين أنه كان أحد مطالب الأنبا إبيفانيوس، حيث أن الحياة الرهبانية داخل الدير، تجعل الراهب يعيش فقط فيما جاء لأجله، بينما الخدمة بالخارج تأخذه كثيرًا عن الزهد والتوحد، الأمر الذى جعل الرهبان يتركوا العالم للبحث عن الهدف السامى.

وعقب صدور قرارات البابا، بمشاركة لجنة شئون الرهبنة، بحضور الأنبا دانيال السكرتير العام للمجمع المقدس، و19 من الأباء المطارنة والأساقفة رؤساء الأديرة فى جلسة خاصة لمناقشة انضباط الحياة الرهبانية، بجانب إستمرار التحقيقات فى مقتل الأسقف، جرد "تواضروس" الراهب اشعياء المقارى، الأمر الذى أكدت عليه الكنيسة أنه خارج التحقيقات بقضية قتل الأنبا إبيفانيوس، وفقط يخص اسباب رهبانية.

لم تنتهى القصة بل جاء خبر إنتحار إثنين من رهبان الدير الذى شهد الحدث الأليم لمقتل الأنبا إبيفانيوس، كالصاعقة، حيث قطع الراهب فلتاؤس المقارى، شريان يده، ثم ألقى بنفسه من أعلى مبنى مرتفع بالدير، فى ظروف غامضة، الأمر الذى أصاب الجميع بذهول، حيث أنه شاب في الثلاثين من عمره، وكان باحثًا متخصصًا في التاريخ الكنسي، وأصدر كثير من الدراسات والأبحاث عن تاريخ آباء الكنيسة من بينها بحث عن القديس تادرس المشرقي راجعه الأنبا ابيفانيوس، وبعد وقت قصير فى ذات اليوم، كانت محاولة إنتحار الراهب إشعياء الذى تم تجريده.

"إبيفانيوس تلميذ متى المسكين"

فى الذكرى العاشرة لرحيل متى المسكين، كان يشارك الأنبا إبيفانيوس بمؤتمر "بوزى" بإيطاليا، وقال فى كلمته: "ففي عام 2006، رحل عن عالمنا الأب متى المسكين، الأب الروحي لدير القديس أنبا مقار بوادي النطرون في الصحراء الغربية بمصر، لكنه قبل رحيله ترك لأولاده ميراثًا غزيرًا روحيًا وإنسانيًا، ما زلنا نغترف منه حتى الآن، ولا ندَّعي أننا قد استطعنا أن نستوعبه كله أو حتى نُدرك أبعاده".

وأضاف الأسقف الذى تم قتله، عن الأب الذى تتلمذ على يده، أن الأب متى المسكين تحدث عن الانفتاح على الكنيسة الجامعة.

وتابع: من الصعب على غير الدارسين لتاريخ الكنيسة القبطية في العصر الحديث أن يُدركوا مدى الأثر الذي تركه الأب متى المسكين في نظرة الأقباط للكنائس الأخرى، أو مدى تأثيره على الحياة الرهبانية، وعلى حقل الدراسات الآبائية والإنجيلية، ففي النصف الأول من القرن العشرين، بَدَأَت في مصر حركة مدارس الأحد التي كان يقودها الأرشيدياكون حبيب جرجس، الذي اعترفت الكنيسة القبطية بقداسته منذ ثلاثة أعوام.

وأكد أن كل ميراث هذه الحركة يتمثَّل في كتابات جدلية وكتابية واردة من الكنائس الأخرى، ولم يكن هناك أية دراسات آبائية معروفة أو تفاسير للكتاب المقدس في يد القارئ القبطي باللغة العربية، سوى بعض الكتب المترجمة عن كُتَّاب من الكنائس البروتستانتية وكانت أهم هذه الكتابات وأكثرها شيوعًا تفاسير ف. ب. ماير.

ولفت إلى أن هذه الكتابات تتلمذ بها معظم قادة الكنيسة في ذلك الوقت، وفي حقل الدراسات اللاهوتية لم تكن الكنيسة تعرف سوى كتاب: ”علم اللاهوت“ - تأليف القمص ميخائيل مينا ناظر مدرسة الرهبان في ذلك الوقت، وكان قام بتأليف هذا الكتاب عام 1938، ويتبع فيه نظام اللاهوت الغربي المعروف باسم "اللاهوت النظامي".

وأضاف في عام 1951، صَدَر للأب متى المسكين كتاب: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، وهو أول كتاب يصدر له بعد تكريس حياته للرهبنة بثلاث سنوات فقط، وكان للكتاب صدًى واسع عند الناطقين باللغة العربية داخل مصر وخارجها، حتى أنَّ جناب المطران جورج خضر مطران جبل لبنان للروم الأرثوذكس، قال: ”إنَّ هذا أول كتاب في العصر الحديث لكاتب قبطي يتتلمذ عليه الروم.

وأشار إلى أن الكتاب ليس مجرَّد بحث في أصول الروحانية الأرثوذكسية، بل كان نافذة أطلَّ منها الأقباط على ماضي حياتهم الروحية والآبائية والرهبانية، وكان له تأثيرٌ بالغ في حياة الآلاف من الأقباط، الذين صار كثيرين منهم قادة الكنيسة بعد ذلك؛ بل كان له تأثيرٌ في الحركات الرهبانية خارج مصر، خاصة في السنوات الأخيرة، بعد أن تمَّ ترجمته للُّغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والأوكرانية.

وأهم ما تضمَّنه هذا الكتاب، هو ذِكْر أقوال لقدِّيسي الكنيسة غير الأقباط، أي من الكنيسة الجامعة، والتي لا تعرفهم الكنيسة القبطيـة، مثـل: القديس غريغوريوس الكبير، والقديس يوحنا الدمشقي، والقديس ساروفيم ساروفسكي، مما فتح للأقباط نافذة جديدة على الكنائس الشقيقة الأخرى، التي كُنَّا ننظر إليها، ولسنواتٍ طويلة، على أنها كنائس مُعادية لنا، فإذا بنا نقرأ سِيَر قدِّيسيها وأقوالهم، ونتمثَّل بحياتهم، وكان هذا إيذانًا بقبولنا الآخر الذي لم تستطع الحوارات المسكونية حتى الآن أن تُحقِّقه.

وتابع: لقد أدرك الأب متى المسكين وقتها أهمية هذا الكتاب، فكتب في عام 1968 في مُقدِّمة الطبعة الثانية، تعليقًا على كلمة المطران جورج خضر: إنَّ الله اختار هذا الكتاب ليكون فيه كلمـة مُصالحـة ونقطة تقابُل، لا على صعيد الحوار الفكري أو الجَدَل اللاهوتي، بل على مستوى وحدة الحياة الروحية وتجلِّيات الإيمان الذي يتجاوز العجز اللفظي إلى نور الحق الإلهي المُعاش.

وأردف: بدأ الأب متى المسكين يذكر في عظاته أسماء قدِّيسين غربيين كان لهم تأثيرٌ في حياته الروحية، ومسيرته الرهبانية، مثل: القديسة تريزا الطفل يسوع، والقديس فرنسيس الأسيزي، فكان لمثل هذه الكتابات والأقوال أثرٌ فعَّالٌ في حياة الأقباط تجاه قدِّيسي الكنيسة الجامعة، مع الإحساس العميق بوحدانية جسد المسيح.

وأضاف قائلا: أتذكر أنه في أول زيارة لي إلى إيطاليا لحضور المؤتمر الدولي للدراسات القبطية، الذي نظَّمته الجمعية الدولية للدراسات القبطي عام 2012م، أنه أثناء زيارتنا لكاتدرائية ميلانو، تقابلنا مع الآباء المسئولين عن هذه الكاتدرائية، وبمجرد أن عرفوا أننا من مصر، كان أول سؤال يطرحونه علينا هل تعرفون الأب متى المسكين ؟ فأشار الأب الأسقف المسئول عن الوفد المصري نحوي وقال: هذا ابنه، فأقبل علي الآباء يقبلونني ويُحيونني بحرارة.

وتابع: لما استفسرنا عن سبب سؤالهم، قالوا: نحن من تلاميذ الأب متى المسكين، وفي ديرنا نقرأ كتاباته كل يوم، وقتَها علمتُ بمدى أهمية ما قام به دير ”بوزى“ في إيطاليا من ترجمة كتابات الأب متى المسكين إلى الإيطالية، في أسلوبٍ جميل وإخراجٍ رائع، مما أتاح لأشقَّائنا في كنيسة روما بالتعرُّف على الكنيسة القبطية من خلال تلك الترجمات.

ولأن الأنبا إبيفانيوس كان تلميذ وأبن للأب متى المسكين، كانت الخلافات التى ذكرتها الكنيسة بين البابا الراحل شنودة الثالث، وبين الأب متى المسكين، الحدث الذى يتداوله الجميع الأن وبدأت تتبادر إلى الذهن كثيير من التساؤلات:هل الخلافات كانت فكرية أم شخصية؟ وهل أدت إلى مقتل رجل الله "الأنبا إبيفانيوس"؟.

وترصد "الدستور" الخلافات التى شهدتها الكنيسة بين بطريرك لم يختلف على ثقافته وقداسته أحد، وبين قداسة الأب متى المسكين.

الأب متى المسكين والتجديد الرهباني

قال الأنبا إبيفانيوس إنه عندما بدأ الأب متى المسكين حياتـه الرهبانية، كانت الأديرة القبطية في حالٍ يُرثَى له، فأعداد الرهبان كانت تناقصت كثيرًا، ومباني الأديرة آل بعضها للسقوط، خاصةً دير القديس أنبا مقار، ولم يكن بالأديرة أيُّ رهبان من خريجي الجامعات أو من المُنكَبِّين على الدراسات القبطية والإنجيلية سوى الن‍زر القليل.

وأضاف: منذ أول يوم لتكريس حياته للرهبنة، وضع الأب متى المسكين في قلبه أن يحيا حياة رهبانية تقوم على مبادئ الإنجيل ووصايا قدِّيسي الرهبنة، خاصةً أنبا أنطونيوس وأنبا مقار وأنبا باخوميوس. فكان أول كتاباتـه الرهبانية بعنوان: "أنبا أنطونيوس ناسك إنجيلي"، أوضح فيه الأساس الإنجيلي الذي تقوم عليه الحياة الرهبانية، والتي بدونهـا نصبح غرباء عن الطريق الصحيح.

بدأ عمليًّا في إحياء حياة الرهبنة كمزيج بين حياة الوحدة كما عرفها القديس أنبا مقار، وحياة الشركة كما وضع أُسُسَها القديس أنبا باخوميوس.

وتابع: كان الأب متى المسكين هو أول من أعاد "مائدة الأغابي" التي يجتمع حولها الرهبان كل يوم، كطقس رهباني أصيل، يُوحِّد الرهبان معًا في خبز المحبة، بعد أن كان هذا الطقس قد اختفى من أديرتنا منذ مئات السنين. وقد سعدتُ جدًا عندما استضافني الرهبان هنا لأخذ بركة الشركة في مائدة المحبة الرهبانية، فوجدتُ فيهم نفس روح الشركة التي علَّمنا إيَّاها أبونا متى، مُناديًا أنَّ الشركة في المائدة الواحدة هو امتدادٌ للشركة في الإفخارستيا، كما وضع الأب متى أُسُس العمل اليدوي، كعملٍ مشترك لكلِّ رهبان الدير القادرين على العمل، واضعًا في ذهنه أنه على الراهب أن يعول نفسه، وأن يُقدِّم فائض عمله لخدمة المحتاجين، حسب وصية آباء الرهبنة.

الخلافات بين شنودة الثالث متى المسكين

"خذ ما يفيدك وأترك ما لا يفيد".. كان هذا تعليق البابا الراحل شنودة، عندما سأله أحد الشباب: ما رأى قداستك فى كتاب حياة الصلاة الذى كتبه الأب متى المسكين؟

فأجاب البابا شنودة، قائلًا: لم أمنع أحد من القراءة، ولكن هذا الكتاب تمت كتابته مرتين، فى الطبعة الأولى، راجعته، بينما الطبعة الأخرى، كان بها أمورًا أخرى لم أوافق عليها، مضيفا: "خد من الكتاب إللى يفيدك".

كانت هناك بعض الخلافات اللاهوتية بين البابا الراحل شنودة الثالث، والأب متى المسكين، بالرغم من تلك العلاقة المحبة التى كانت تجمعهما فى بداية الحياة الرهبانية، إلى أن بدأت كتابات الأب متى المسكين، تدخل فى نقاط طالبه البابا بعدم الكتابة بها ولكنه أستمر.

وبدأ البابا شنودة يرد في الإكلريكية قائلا:"أنا ملتزم بعبارة الدسقولية التي تقول: "امحو الذنب بالتعليم، ومازلت أطيل أناتي منتظرا أن يأتي التعليم بنتيجة"، كما رد عليه في كتاب تحت عنوان "بدع حديثة" صدر عام 2006، ولكن بدون ذكر أسم الأب متى المسكين، مستبدلا بعبارة "يقول المؤلف"، وحينما سئل عن السبب قال:" أحارب فكرًا لا شخصا".

ومن بين الأفكار التي كان يبثها الأب متى المسكين، الوحدة المسيحية، فى يناير عام ١٩٦٥، وكتب مقالًا تحت، بثَّ فيه أَفْكَارَه وتَصوُّراته حول مفهوم الوحدة المسيحية وكيفية تحقيقها، مؤكِّدًا أننا لا نُريد وحدةً عاطفية تكون لمجد الإنسان وتعظيم الذات البشرية، مثلما حاول الإنسان فى القديم أن يُقيم وحدةً الغرض منها بناء برج بابل.

وكانت النتيجة التَّفتُّت والانقسام، ولا أن تكون وحدةً قائمةً على التكتُّل ليتقوَّى الضعيف بالقويِّ، وليزداد القويُّ قوةً وسُلطانًا، بل تكون وحدةً على مستوى إلهى، كنتيجة حتمية لاتِّحاد الإنسان بالله، أى نتيجة لوصية الله الأولى: "تحب الرب إلهك من كلِّ قلبك، ومن كلِّ نفسك، ومن كلِّ فكرك، ثم الوصية الثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك".