رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حبيبى الأسمر.. كيف صنعت الست فاطمة أسطورة محمد الننى؟

جريدة الدستور

تستيقظ من نومها فجر كل يوم، تُعد فطار أسرتها وتوقظ طفلها «محمد» ذا الست سنوات، وبعد أن تقضى حاجات زوجها ومنزلها تحمل طفلتها، التى لم تكمل عامها الثانى على كتفها وتصطحب طفلها فى يديها، قبل أن تنطلق فى رحلة يومية من الغربية إلى القاهرة.
ومع شروق كل يوم جديد، كانت تلك الأم العظيمة، السيدة فاطمة، تكرر نفس المشهد، وتقطع مسافات طويلة من أجل أن تساعد ابنها «محمد الننى» على تحقيق حلم: لاعب كرة قدم شهير.

سافرت من الغربية للقاهرة يوميًا حاملة رضيعة لتحقيق حلمه
فى الثالثة عصرًا، كان تدريب براعم الأهلى، الذين انضم إليهم نجم منتخبنا الوطنى محمد الننى فى عامه السادس، ولكى يصل من بلدته فى الغربية قبل الموعد المحدد، احتاجت الأم أن تستيقط من نومها فجرًا يوميًا كى تنتهى من أعمال منزلها وتجهز أدوات طفلها وتصطحبه فى رحلة تبدأ السادسة وتنتهى بعودتهم إلى المنزل، تارة فى العاشرة مساءً وأخرى فى الـ١٢ من صباح اليوم التالى.
كان الحمل ثقيلًا ومُتعبًا لأقصى حد على هذه السيدة، فكيف لها أن تقوى على حمل طفلة رضيعة أكثر من ١٥ ساعة يوميًا خارج منزلها، وتقطع مسافات طويلة، تزيد على المائة كيلو، ذهابًا وإيابًا، فى قطار الفقراء، وتواجه زحام العاصمة من رمسيس إلى مدينة نصر، ذهابًا وإيابًا، من أجل أن يتدرب طفلها ويتعلم أساسيات كرة القدم؟.
لم يُقدر لوالدة الننى، التى قضت سنوات طوال فى هذه المعاناة، أن ترى نجلها يلعب فى أقوى دوريات العالم، وتملأ صوره أغلفة أعظم الصحف الرياضية، وتجوب فيديوهاته كل الاستديوهات هنا وهناك، كانت بسيطة فى حلمها، تمامًا كما كانت حياتها، كان كل ما تحلم به وتشقى من أجله أن ترى الصغير محمد ذات يوم فى التليفزيون، كما يروى هو بعيون اغرورقت بدموع الفراق الصعب. عانت كثيرًا من أجل لحظة واحدة، بذلت من الجهد ما يستحق أعظم الجوائز، ونالت من المشقات نصيبًا ضخمًا، وانتظرت أن تجالس جاراتها الريفيات البسيطات وتتحاكى بلقطة لابنها، الذى يظهر فى التليفزيون، انتظرت أن تتفاخر بمحمد يلعب ولو مباراة واحدة.
لم يكن بمخيلتها أن يكون الننى لاعبًا فى واحد من أكبر أندية العالم، أن يرتدى زى أرسنال الإنجليزى، أن يكون زميلًا للأساطير، أمثال مسعود أوزيل وأليكسيس سانشيز، وأن يكون الاختيار المفضل لمدرب كبير اسمه آرسين فينجر، وأن يمثل منتخب بلادها فى كأس العالم، ويتحول لأهم ركيزة بوسط الفراعنة.
غادرت الحياة وهى لا تعلم بأن المستقبل سيسوق لنجلها أجمل الأقدار، وأن الله لن يضيع مجهوداتها، وأن تغلبها على قسوة الحياة وتحملها لبرودة الشتاء وضجيج القاهرة القاتل، وصعوبات كثيرة تحملتها من الغربية إلى القاهرة، كل ذلك لم يكن أمرًا عبثيًا سيضيع فى الهواء، بل كان نتاجًا لثمار عظيمة جاءته مستقبلًا وجناها هذا الولد البسيط، الذى لايزال يحمل الجميل لوالدته.
يحكى الننى عن دور والدته فى مسيرته الكروية الفراق: «أمى ليست ككل الأمهات، بالنسبة لى هى أجمل وأعظم شىء فى حياتى، أعظم من أى فريق وأى فوز وأى بطولة، أمى هى القيمة التى لا يعوضها أى شىء».
يواصل حديثه وهو لا يستطيع مقاومة دموعه، التى يمنعها بصعوبة بالغة: «عندما كبرت ولعبت فى أندية كبيرة، أتذكر ما قامت به معى، لا أستطيع أن أتخيل أن سيدة يكون معها طفلة رضيعة وتوصل ابنها كل يوم من الغربية إلى القاهرة، وترجع آخر الليل، العمل هذا لا يقدر عليه أعتى الرجال، إلى الآن مش متخيل هى كانت بتعمل ده إزاى».
يتعجب الننى، كما يجب أن يتعجب الجميع، من إصرار تلك الأم على مواجهة أى عقبات وكسر أى محطة قد تقف عائقًا أمام حلم نجلها، ويقول إنه مع كل انتصار ومع كل نجاح وتقدم، أول شىء يخطر بباله هو صورة أمه المبهجة، التى كانت ومازالت البدر الذى يُنير طريقه، فهو يؤمن، مثلما قال له والده، أنها لاتزال تدعى له فى حياتها الأبدية بعد الموت، وأنه كما كان لها الفضل فى نمو موهبته بالصغر، فإن رضا الله عنه فى الكبر ليس إلا استجابة لها وتعويضًا لما بذلته.

الأهلى طرده.. ومدربوه انتصروا له على غضب الجماهير
عندما غادرت والدة الننى الحياة وهو فى سنة ١٥ سنة، كانت تلك أصعب الفترات فى حياة هذا النجم الكبير.
لم يستطع مواجهة هذه الفترة الصعبة، ولأن المصائب لا تأتى فرادى، قرر مسئولو قطاع الناشئين بالأهلى التخلى عنه، ليعتقد للحظات أن الحياة تُدير ظهرها إليه، وأن حلمه يتبخر، فرفيقة الرحلة غادرت محطة الحياة نهائيًا، ولم يجد من يُعينه على مشقة السفر والزحام، وزاد الوضع انهيارًا بتوديع ناديه المفضل.
غادر الننى الأهلى، وهو لا يعلم كيف يستكمل مسيرته، وأين يذهب بعد كل هذه السنوات والتعب، فنصحه بعض زملائه بالذهاب إلى اختبارات نادى المقاولون العرب، لكنه كان مترددًا وحزينًا مما جرى له فى الأهلى.
وبالفعل، انضم الننى إلى تجربة جديدة، فذهب إلى ملعب الجبل الأخضر، شارك فى الاختبارات ولم يحالفه التوفيق، إذ لم يكن اسمه بين الأسماء التى نادى عليها القائمون على اختيار اللاعبين، فغادر الملعب حزينًا.
حمل الننى حقيبته وغادر الملعب وقطع مسافة ليست بالقصيرة مشيًا، وبينما كانت تفصله أمتار قليلة عن العربة التى ستنقله من منطقة الجبل الأخضر إلى محطة القطار، فوجئ بعامل مسئول عن إحضار أدوات التدريب بـ«المقاولون» يجرى وراءه ويناديه: «لو سمحت يا كابتن.. تعالى الكباتن عايزينك جوه».
دب الأمل فى قلب الننى من جديد، وجرى فى عروقه الحلم، الذى بدأ فى التلاشى فى النصف الأول من هذا العام الأسود، وبدأت تدور فى ذهنه بعض التساؤلات: «هل عادوا فى كلامهم وقرروا أن يضمونى للنادى، أم أن الأمر مرتبط بشىء آخر».
لم يتوقف عقل الننى عن التساؤل حتى استقبله سعيد الشيشينى، الذى كان له الفضل الأكبر فى إعادة الولد الأسمر إلى الحياة.
يحكى الشيشينى لـ«الدستور»، وهو يتذكر تلك الواقعة وكأنه يعيشها من جديد: «كنت جالسًا فى مكان بعيد عن الجهاز الذى يختار، ورأيت تحركات وطريقة لعب الننى، وبعد أن ذهب سألتهم، (اخترتوا الواد الأسمر اللى فى نص الملعب؟)، لكنهم فاجأونى بأنهم لم يقبلوه».
يواصل الشيشنى روايته: «تعجبت جدًا، لأن الولد بدا عليه من البداية أنه موهوب، وسيمثل إضافة كبيرة، فطلبت من أحد العاملين أن يجرى سريعًا للحاق به قبل أن يغادر النادى، وهو ما حدث».
عاد الننى والتقى بالشيشينى الذى منحه قبلة الحياة، ومازالت كلماته مرتبطة بذهن «الواد الأسمر»، كما سماه مدربه فى المقاولون العرب، يتذكر تلك اللحظات التى فتحت له بابًا جديدًا للأمل، لينطلق معها قطار رحلته نحو العالمية.
من بين لاعبى جيله الذين واجهتهم صعوبات كثيرة، كانت رحلة الننى الأكثر قسوة، منذ طفولته، مرورًا بتلك الفترة التى أعقبت وفاة والدته ورحيله من الأهلى، وحتى رحلة صعوده أوروبيًا.
ما قد يغفل عنه كثيرون أن الننى التحق بـ«بازل» السويسرى بعد معاناة كبيرة جدًا، بدأها بعرض نفسه على الفريق، والخضوع لاختبارات، رغم أنه كان لاعبًا فى منتخب مصر، ولما فشل لم يفقد الأمل، بل عاود الاتصال بالإدارة مرة أخرى ليطلب فرصة جديدة، وليروه بشكل أفضل. كان إلحاحه، الذى يشبه عزيمة والدته العظيمة، سرًا فى أن ينطلق قطار الغربية إلى أجمل المحطات الأوروبية، ولما كُتب له الانضمام إلى بازل، لم يكن مشواره قد انتهى ولا حلمه قد توقف، بل كان تطوره -الذى لاحظه الجميع فى آخر مواسمه مع الفريق السويسرى- كاشفًا عن مدى الطموح الذى يحياه هذا الشاب، والكيفية التى يعمل بها دائمًا للتطور والانتقال إلى مكانة أفضل.
انتقل الننى إلى أرسنال، وأصبح لاعبًا فى أقوى دورى بالعالم، ولايزال هناك من يشكك فيه، رغم أنه أفضل الخيارات لدى جميع المدربين، فهو- كما يحكى والده- ينفذ تعليمات مدربيه نصًا، ويقوم بواجباته كما يقول الكتاب، فهو لا يعبأ بآهات جماهير ولا شعاراتهم تلك، التى تضخم أرباع وأنصاف اللاعبين وتجعل منهم أساطير، رغم أن أحدًا لم يفلح فى صناعة شىء سوى تلك البطولات الوهمية.
انتصرت إرادة الننى وكتبت تاريخًا مازالت فصوله قائمة ومستمرة، والمقبل فيها ربما يكون أفضل وأهم، ورغم الملاحظات على غياب أدواره الهجومية والممتعة، إلا أنه سيظل واحدًا من أبرز الركائز فى تاريخ الكرة المصرية، وسيمثل مع محمد صلاح، العلامة التى ستنقل كرتنا من مكانة إلى أخرى.
للننى طفلان، مالك وفاطمة، تلك الجميلة التى استقبلها قبل سنة ونصف، وسماها على أجمل الأسماء وأحبها إلى قبله، فقد أراد بها أن يحيا اسم والدته، التى ظلت صورتها حية فى قلبه، لا تغادره أبدًا.