رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"عم محمد".. فرد أمن بدرجة فنان

جريدة الدستور

في الردهة الأمامية لأحد بنايات منطقة جاردن سيتي، وتحديدا في شارع رستم المتفرع من القصر العيني، يجلس "عم محمد" -كما يطلق عليه مرتادو المكان-، بجاوره بعض قصصاصات الورق وأقلام الحبر والألوان، يعاونانه على حراسة أحد العقارات.

محمد صاحب السبعين عاما، ذو شعر خفيف مشذّب وممشط للوراء، يغطي أذنان كبيرتان، وشاربه الأبيض يغطي ووجه، يقضه يومه يجول بعينيه النجلاوان بين روااد العقار يتعرف على الغرباء بمجرد رؤيتهم، ويتاعب العمل من على كرسيه المكسو بالجلد، وبيده جريدته لمتابعة الأحداث، ووجهه محمل بأعباء الحياة.

ابتسامة حارس العقار المثقف لا تغيب عن محياه، يسجلها في رسوماته التي لا ينفك عنها طوال اليوم، ورغم قتامة حالته الاقتصادية بعد زيادة الأسعار الأخيرة التي وقعت يونيو الماضي، إلا أنه يحاول تجاوز ذلك بالرسم.

ذاكرة الرسام العجوز هذه أثقلت من مهمته في الحياة، على عكس الماضي، كان ميسور الحال، بدأ عمله في الأمن منذ حوالي 35 عام مضت.

وارتفعت الأسعار في السنوات الأخيرة، بعد أن طبقت الحكومة سلسلة من إجراءات اقتصادية ومالية، على رأسها تحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية، وفقًا لآليات العرض والطلب (التعويم) في نوفمبر 2016.

محمد الجلاد، على الرغم من أن وجهه ذو قسمات جميلة، وإن كانت لا تخلو من الخشونة والصرامة، إلا أن العمل أنهكه تمامًا، في 1974 بدأ حياته العملية، بعد مشاركته في النكسة، حرب أكتوبر العظيمة، وصف حياته وقتها باليسيرة، والعمل في الشارع بالسهل، لذا تمنى أن يعود الزمان يومًا.

عُين "عم محمد" في قسم الإرشاد، بالقناطر الخيرية حينها، كمهندس زراعي، نظرًا لكونه أحد خريجي المعهد العالي الزراعي، جامعة عين شمس، ومن ثم انتدب كمفتش تموين، للعجز في الموظفين، يصف الرجل تلك الأيام بالسعيدة، "كانت الدنيا رخيصة، وعدد الناس قليل، والناس مبسوطة ومستريحة، وكنّا عارفين نعيش وقتها"، يقول هذا وتمتلكه حالة من الحزن الشديدة على حال الشباب الصغير.

لم يكن الرجل السبعيني أثير العمل الحكومي فقط، فخفة ظله فتحت له الطريق بأن يكون أحد أفراد الأمن في برج المقاولين العرب "الناس بتحب الضحك من كتر الهم، فعملت عمار بيني وبين سكان العمارة، وحتى اللي بيجوا زيارات كده، واشتغلت عشان الشغل مش عيب ولا حرام، وأحسن من القاعدة في البيت، وبعدين معايا ولادي شباب دلوقتي، 3 مدرسات، ومحامٍ".


صنع "عم محمد" مستقبله دون تيه أو ملل، إلا أن الزمان استعصى عليه في تحقيق حلمه، لكنه لم ييأس، "أنا كان نفسي أبقى رسام وخطاط، وأدخل كلية فنون جميلة بس التنسيق خلاني مهندس زراعي وقتها، بس أنا مستسلمتش لكدة، ولسه شغال على نفسي، وبرسم طول ما أنا قاعد، أصل الموهبة بتموت لو مدربتش نفسك باستمرار، وربنا بيقولك أنت معاك نعمة لو محافظتش عليها هاخدها منك، عشان تحس بقيمتها" كان ولا زال معافر في درب من دروب المستحيل، يتحسب في أي لحظة أن تفتح له الأبواب ويعلم الجميع موهبته التي دفنت بردهة البرج الذي يعمل به كأحد أفراد أمن".