رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: راقصة الملوك.. ماذا فعلوا بكِ ليلة النكسة يا زينات؟

أشرف عبدالشافى
أشرف عبدالشافى

- عملت ممرضة فى مستشفى وطرودها بعد ضبطها متلبسة بالرقص مع زميلاتها فى سهرة

رقصتْ زينات علوى فى أنشاص ليلة النكسة وأثير جدل ولغط كبير حولها، ومن يومها اختفت وظل ظهورها شحيحًا حتى ماتت وحيدة مقهورة، ربما عزلوها حتى الموت، ربما غرسوا دبابيس صغيرة من الكراهية والحقد بين ضلوعها، ربما سلطوا عليها بلطجية يسرقون النوم من عينيها بتهديدات ليلية تثير الرعب فى قلبها الصغير، ربما أهانوها وهى سيدة الكبرياء، ربما، لكن الأكيد أنهم قتلوها مع سبق الإصرار والترصد وتفرقت دماؤها بينهم وبقى جمالها وبريقها الأخاذ وضحكة الخد التى ترسم وردًا وياسمين حتى اليوم.

إخفاء متعمد لسيرة «جميلة جميلات الخمسينيات».. واتهام باطل فى قصة الهزيمة
حبيبتى زينات: أنا اليوم فى شهر أغسطس من العام ٢٠١٨، وقد خطر طيفك على بالى، فتركت ما فى يدى وجئت إليك، ليس ذلك معناه أن طيفك لم يزرنى من قبل، فكثيرًا ما لاحت من عينيك طلة تحمل ضحكتك، وكثيرًا ما انتشرت عطور منك فى غرفتى وأنت ترقصين لى وحدى وليس لـ«رشدى أباظة».
إن الثقة التى يهتز بها جسدك منفردًا بينما ضحكتك تهبط إلى أصابع قدميك تأخذ قلبى، أحيانًا أضرب كفًا بكف وأقول: «هو فيه كده يا جدعان؟» وأحيانًا أكثر- أشعر بالأسى على مصيرك، كيف سقط كل هذا الورد من بين أيدينا فلم ننتبه؟!.
قصيرة أنت يا حبيبتى، لكن ظلك يحوى البهجة، يلّفها على وسطك الحر المنطلق كدائرة صغيرة تفرك أعواد الفل والياسمين تحت قدميك الصغيرتين للغاية.
فى العام قبل الماضى انشغلتُ بقصتك انشغالًا كبيرًا، لكنه سرعان ما انطفأ لقلة ما عثرت عليه من معلومات، فما هو متوافر مجرد لقطات غير منطقية يتم تناقلها على المواقع الإلكترونية، كلها حكايات سريعة وخاطفة عن عبدالسلام النابلسى الذى اعترف بحبه لك، وعن جديتك والتزامك وثقافتك التى توسعت بعد أن أصبحت أنت وحدك «راقصة الهوانم»، حيث سهرات سيدات المجتمع الراقى من زوجات سفراء وأمراء سابقين وقادة ثورة يوليو الصاعدين سلم المجد الاجتماعى.
لا أثق فى شىء قدر ثقتى فى اللقب الذى منحوه لك والمسجل فى كل القصص الصغيرة عنك «زينات قلب الأسد»، التى لا تخشى أحدًا ولا تفعل إلا ما تحب وتهوى ولا ترى فى الرقص عيبًا أو عملًا غير شرعى يستوجب مطاردة البوليس، لا أثق سوى فى هذه البنت القصيرة القوية التى سعت لتأسيس نقابة تحمى الراقصات وتصون آدميتهن ولكنهم أجهضوا فكرتها كما أجهضوا وجودها نفسه.
لا أملك يا حبيبتى إلا قصة وحيدة عن ليلة النكسة، قصةً حشروا اسمك فيها وجعلوك مجرمة ذهبت إلى الجبهة وأغوت الضباط فغابت عقولهم ولم يستيقظوا إلا على صوت البارود والهزيمة المفجعة، جعلوك مجرمة منذ تلك الليلة، وأظنهم قرروا دفنك وحصارك من بعدها خوفًا من «قلب الأسد»، الذى قد يزأر ويفضح عبدالناصر ورجاله الذين اختارهم ليكونوا درعًا لحماية الوطن.
فتشتُ فى مذكرات الفنانين وحكايات رشدى أباظة مع تحية كاريوكا وسامية جمال فلم أجد لك ذكرًا، أنت مواليد ١٩ مايو ١٩٣٠ وبحثت أكثر فى كتب سور الأزبكية ومجلاتها القديمة حين حددت مرحلة ظهورك فى عالم الفن والرقص (١٩٥٠) وكان عمرك عشرين عامًا بالتمام والكمال، ووجدت أن أقرانك فى هذا الوقت: «تحية كاريوكا ونعيمة عاكف وسامية جمال وكيتى»، وأنت أكثرهن رقة وجمالًا وخفة وأطعمهن بالطبع، فأين حضورك بينهن وقد تقاسمن كل شىء بنصيب وافر وإن كانت نعيمة عاكف أقلهن حظًا؟.
قرأت كل ورقة فوجدت تعمدًا لإخفاء اسمك، حتى المطرب الوقور عبدالعزيز محمود الذى أحبك وقال إنه لا يتألق على المسرح إلا معك لم يذكرك فى حواراته القليلة، فقط نشرت مجلة «المصور» قصة صغيرة عن فترة عملك كممرضة فى مستشفى الحميات، وكيف طردوك بعد أن ضبطوك متلبسة بالرقص فى سهرة مع زميلاتك، وتنسب المجلة فضل ظهورك إلى الأستاذ عبدالعزيز محمود عام ١٩٥١، حيث أسس شركته الخاصة وقدم مع شكوكو فيلم «شباك حبيبى».

علّمت السندريلا الرقص.. ساعدت «مطاريد عبدالناصر».. واختفت 18 عامًا بعد ٥ يونيو ٦٧
فى آخر ظهور لها على الفضائيات فى مايو ٢٠١٨، قالت الفنانة لوسى إن زينات علوى هى التى علّمت سعاد حسنى الرقص، وأنا لا أشك فى هذه المعلومة لما أراه الآن بين سعاد وزينات من تقارب يُشبه ميل الشجرة على ظلها.
لم تخجل زينات من الرقص، لم تعتبره مضافًا إلى التمثيل، لكنها اعتبرته فنًا خالصًا يستوجب تفرغًا له وحده، ورفضت نصائح الكبار صلاح أبوسيف ويوسف شاهين بالتمثيل إلى جانب الرقص.
كلمات قليلة كتبها أنيس منصور عنك بعد وفاتك يا زينات، كلمات معدودة فى مقال: «مَنْ الذى لا يحب كاريوكا وزينات»، لكنها تحمل الكثير من طباعك وتشير إلى مواقفك النبيلة.
صحيح أن الأستاذ أنيس جعلك فى المرتبة الثانية بعد تحية، لكنه أشاد بسهولة حركة جسدك وحرصك على عدم الابتذال، والأهم كما يقول أنيس هو موقفك مع عدد من الصحفيين والكتاب الذين فصلهم الرئيس عبدالناصر من عملهم: «أنا مثلًا، يقول أنيس رأيتها تزور الشاعر كامل الشناوى، فلما وجدته نائمًا ظلت جالسة حتى نهض من فراشه، وكان يسهر الليل وينام النهار، وهددت بأن تلقى بنفسها من النافذة إن لم يأخذ مبلغًا من المال وكان بضعة آلاف واعتذر كامل الشناوى، وفوجئنا بأنها فعلًا تريد أن ترمى نفسها من الشباك، ثم قبلتنا والدموع فى عينيها».
من المحزن أن يفرط نجوم الكتابة والصحافة فى كنز من الموهبة والإنسانية على هذا النحو، من المحزن أن الشناوى الذى أحب طوب الأرض وصنع منه أساطير وأوهامًا، لم يكلف نفسه عناء تأمل موهبة بحجم زينات تمتلك هذا الوعى وتلك القوة التى تدفعها للتضامن مع الأدباء والفنانين فى ظروف هى الأصعب حتى على الرجال، هل خاف هؤلاء تسجيل حياة زينات ورصد مواقفها وتفاصيل مشوارها الاستثنائى فى تاريخ الفن؟.
شىء مثير للشك خاصة مع التوقف قليلًا أمام قصة ذهابها إلى قاعدة «أنشاص» فى بلبيس ليلة النكسة، القصة رواها صلاح عرام للزميل محمد البسفى فى حوار منشور قبل ٧ أعوام، قال فيه «عرام» إنه تلقى إخطارًا من مكتب عبدالحميد الحديدى رئيس الإذاعة بالاستعداد لإقامة حفل فنى لرفع الروح المعنوية للجنود والضباط.
وقال عرام إنه فوجئ بالاستدعاء يوم ٤ يونيو للسفر إلى قاعدة أنشاص العسكرية فى بلبيس لإحياء الحفل، مع التنبيه على أن تنتهى جميع الفقرات فى تمام الواحدة صباحًا.
كان الحفل يتضمن فقرات غنائية ومنولوجات وفقرة رقص، فيما اتصلت سكرتارية عبدالحليم حافظ بالقاعدة واعتذرت عن عدم الحضور لظروف طارئة، وذكر صلاح عرام اسم زينات باعتبارها الراقصة الوحيدة التى ذهبت مع الفنانين، وقال إنه تعجب من وجودها، لكنه لم يذكر تفاصيل أخرى.
ماذا حدث فى تلك الليلة يا صديقتى العزيزة؟
المُعلن أن عبدالحليم حافظ اعتذر عن عدم الحضور بفرقته، فطلبوا منك فقرة أخرى لسد غيابه، لكن الفقرة طالت حتى الساعات الأولى من الصباح حيث تم دك مصر دكًا وخرج إعلام أحمد سعيد يبشر المصريين بالنصر القريب وبالطائرات التى أسقطناها، واستمر الكذب حتى ذاب الليل وجاء النهار ليكشف عن كارثة ١٩٦٧ التى ما زالت تزلزلنا حتى اليوم.
ماذا فعلوا بك بعدها يا حبيبتى؟، المعلومات المتوافرة تقول إنك لم تظهرى سوى بعد النكسة بعامين، وفى مشاهد قليلة ضمن أحداث فيلم «السراب» (١٩٧٠)، بعدها ولمدة ثمانية عشر عامًا لم يظهر عنك خبر واحد، حتى جاء صباح ٥ يناير ١٩٨٨ بخبر الفاجعة، حيث وجدوك جثة بعد مرور ٣ أيام على وفاتك، وحيدة، مقهورة، معزولة ومقتولة بالإهمال والحصار.
أظنهم انتقموا من كبريائك، أظنهم لم يرغبوا فى وجود «زينات قلب الأسد» بقصة شعرها المذهلة ورسمة ملامحها الجذابة، أظنهم اتفقوا بشكل ضمنى على تشويه صورتك كراقصة أذهبت عقل الجنود ليلة النكسة، وكانت تلك خطة جماعية تكاتف فيها كل أعداء الحياة والجمال والقوة والصراحة لإبعادك وحصارك وتشويه سمعتك. جربتُ مرة أن أكتب عن رؤيتى الخاصة لك فى مواجهة عشاق تحية كاريوكا وأولتراس سامية جمال، فتعرضت لهجوم كنت أضعف من مواجهته وقتها، لكننى اليوم وفى تلك اللحظة التى أراك فيها أمامى أقول بكل جوارحى: زينات علوى أهم من سامية جمال وتحية كاريوكا ونعيمة عاكف مجتمعات، زينات مذاق مصرى لطيف ورائق وهادئ يأخذ الموسيقى ويترجمها بإحساسه، فتذوب النغمات فى الجسد وتتماوج مع البطن اللينة وتسرى بين الأصابع حتى تصل إلى رعشة القدمين.
جسد حر متماسك واثق، يترك الأذن تستقبل الموسيقى فتتحول إلى ضحكة تأخذ العقل كما أخذت الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب ليصنع مقطوعته البديعة «بنت البلد»، ويصنع مقطوعته النادرة فى تاريخ الرقص الشرقى «كنت فين يا على» فى فيلم «الزوجة ١٣» لجسد زينات. زينات هى «شاكيرا» أو «الاختراع الكولومبى» كما سماها الروائى العالمى ماركيز، يتماوج الحب بين خصرها وسرّتها فيستقيم جسدها الطرى المبهج على دوائر موسيقية متقنة الإغراء، لا أعرف أين كان نجيب محفوظ منك؟ لماذا لم ير فيك ما رآه ماركيز فى شاكيرا؟ ليتنى كنت معك، وليتنى أعثر على الجديد من معلومات حتى لا أتوقف عن الكتابة عنك وإليك يا زينات.