رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انهض واقتل أولًا.. التاريخ السرى لاغتيالات «الموساد»

صورة ارشفية
صورة ارشفية

الاغتيال إحدى أهم الوسائل التى يعتمد عليها جهاز الاستخبارات الإسرائيلى «الموساد» طوال تاريخه، للتخلص من عناصر القوة لدى أعدائه من دول مختلفة كلما دعت الحاجة لذلك، ما حقق له سمعته الشهيرة كآلة القتل الأسرع فى العالم.
الطرق الغريبة والعمليات السرية التى يتبعها «الموساد» فى الاغتيالات، كشف عنها كتاب جديد صدر أواخر يناير الماضى، تحت عنوان «انهض واقتل أولًا: التاريخ السرى للاغتيالات المستهدفة فى إسرائيل»، من تأليف الكاتب الإسرائيلى رونين بيرجمان.
واستوحى الكاتب، الذى عمل لسنوات مراسلا للشئون العسكرية والاستخباراتية فى صحيفة «يديعوت أحرونوت»، عنوان كتابه من عبارة وردت فى كتاب «التلمود» تقول: «إذا جاء شخص ما ليقتلك.. انهض واقتله أولًا»، وهى الآية التى استخدمتها إسرائيل لتبرير أكثر عملياتها عدوانية ووحشية منذ نشأتها.

تل أبيب قتلت عرفات عبر التسميم الإشعاعى.. والمؤلف: حصلت على التفاصيل من مسئولين سابقين
فى العقد الماضى وحده نفذت إسرائيل أكثر من ٨٠٠ عملية اغتيال سياسى، تولى تنفيذها جهاز الاستخبارات الإسرائيلى «الموساد» الذى ارتكب أكبر عدد من جرائم القتل العمدى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وخلال ٧٠ عامًا هى كل تاريخها منذ النشأة عام ١٩٤٨، ارتكبت إسرائيل ما لا يقل عن ٢٧٠٠ عملية اغتيال لتصفية أعدائها وخصومها، حتى يمكن القول إن معظم تكتيكات القتل الحديثة نشأت وتطورت فى تل أبيب.
وعادة اعتبرت القيادات السياسية فى إسرائيل أن عمليات الاغتيال تعد أمرا «مشروعا» و«أخلاقيا»، كما لجأت لتبريره باعتباره مجرد محاولة لحماية أمنها القومى، مهما تسبب ذلك فى إزهاق أرواح المدنيين وتعريض حياة الأبرياء للخطر.
هذا الاعتماد على القتل المفرط وسياسة الاغتيالات التى تعد «شرًا لا بد منه» فى وجهة النظر الإسرائيلية لم يأت مصادفة، بل يمكن اعتباره نابعا من شعور الصهاينة الدائم بأنهم مهددون بخطر الإبادة والفناء، إلى جانب اعتقادهم بأنهم مجرد دولة صغيرة تواجه خطر الإبادة من الدول العربية دون أن يهتم أحد فى العالم بمساعدتها.
وتثبت الوثائق السرية ولقاءات المسئولين السابقين والحاليين فى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية أن تل أبيب تورطت فى اغتيال عشرات الفلسطينيين والعرب والأجانب، من بينهم الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات.
ويقول رونين بيرجمان، مؤلف كتاب «انهض واقتل أولًا»، إن إسرائيل حاولت أكثر من مرة اغتيال «عرفات»، حتى نجحت أخيرا فى ذلك عبر استخدام تقنية «التسميم الإشعاعى» للتخلص من الزعيم الفلسطينى عام ٢٠٠٤، وهو الاتهام الذى تُصر تل أبيب على نفيه رسميًا، غير أن المؤلف ذكر أنه حصل على تفاصيل عملية الاغتيال كاملة لكن الجهات الرقابية منعت نشرها.
وحصل «بيرجمان»، الذى أمضى حوالى ٨ سنوات فى تأليف وإعداد الكتاب، على معلوماته من خلال حوالى ١٠٠٠ مقابلة مع شخصيات مهمة من ضمنها رؤساء وزراء سابقون، ورؤساء «موساد»، وأشخاص نفذوا عمليات اغتيال.
وكشف أن المخابرات الإسرائيلية حاولت منعه من إجراء محادثات مع موظفى «الموساد» إلا أنه تمكن من عقد العديد من اللقاءات، بما فى ذلك لقاءين مع رئيسى الوزراء السابقين إيهود أولمرت وإيهود باراك.

الجرائم بدأت بسبب الرعب من «صواريخ عبدالناصر».. والعلماء الألمان أول ضحاياها
بدأت إسرائيل استخدام تقنية الاغتيالات السياسية على نطاق واسع فى مطلع الستينيات من القرن الماضى بسبب مخاوفها من العرض العسكرى الذى أقامه الرئيس المصرى الراحل جمال عبدالناصر يوم ٢١ يوليو ١٩٦٢. وتضمن العرض العسكرى إعلان القاهرة امتلاكها ٤ صواريخ جديدة من نوعية «أرض- أرض» بحضور حوالى ٣٠٠ دبلوماسى أجنبى، ما مثّل كابوسا حقيقيا لقادة إسرائيل.
يومها أعلن عبدالناصر بفخر أن الجيش المصرى بات قادرا على ضرب أى نقطة «جنوبى بيروت» بهذه الصواريخ، وأعلنت الخدمة العبرية للإذاعة المصرية وقتها أن هذه الصواريخ «ستفتح أبواب الحرية للعرب»، وستجعلهم قادرين على استعادة الوطن الذى سُرق، كجزء من المؤامرات الإمبريالية والصهيونية، فى إشارة لفلسطين.
وعن موقف إسرائيل فى هذه اللحظة، قال آشر بن ناثان الذى شغل وقتها منصب المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلى: «شعرت بالعجز كما لو أن السماء كانت تسقط على رءوسنا».
أما ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلى، فتحدث عن الأمر الذى وصفه بـ«الكابوس» الذى «أبقاه مستيقظًا طوال الليل يفكر فى كيف أحضر يهود أوروبا الناجين من المحرقة إلى دولة إسرائيل ليعرّضهم لمحرقة ثانية».
أما مسئولو «الموساد» فوصفوا إعلان القاهرة عام ١٩٦٢ عن امتلاك مشروع الصواريخ بأنه «واحد من الأحداث الأهم والأكثر صدمة فى تاريخ مجتمع الاستخبارات الإسرائيلى».
وازدادت مخاوف القادة فى إسرائيل بعد علمهم أن حكومة عبدالناصر تعاونت مع العلماء الألمان فى مشروع الصواريخ الذى أقامه الزعيم الراحل لتعزيز القدرة الدفاعية للجيش المصرى، فى محاولته لبناء قوة عسكرية عربية رادعة.
وقتها وضع إيسر هاريل، رئيس «الموساد»، الجهاز بأكمله فى حالة تأهب قصوى، بسبب تخوفهم من أن يكون الهدف الحقيقى للمشروع هو تسليح وتزويد هذه الصواريخ بالمواد الكيميائية المشعة والرءوس الحربية.
وبنى «هاريل» افتراضه على ما أظهرته بعض الوثائق حول مراسلات بين الخبراء الألمان العاملين فى مصر وزملائهم فى ألمانيا الغربية، التى تشير إلى أن القاهرة تخطط لتصنيع ٩٠٠ صاروخ، ما أصاب مسئولى «الموساد» بحالة من الصدمة والذهول. ودفع هذا الأمر قيادات «الموساد» للبحث عن طريقة مختلفة للتعامل مع الأمر، وعملوا على محاولة اغتيال العلماء الألمان المشاركين فى المشروع، واختطافهم وتهديد أسرهم فى سويسرا وألمانيا الغربية.
وفى أول خيوط سلسلة الاغتيالات، ذهب عميل من «الموساد» يحمل اسما حركيا «صالح قاهر» إلى منزل أحد العلماء الألمان ويدعى «هاينز كروج» ونجح فى اختطافه، بعدما ادعى أنه مندوب عن كبير مساعدى رئيس قسم البحث والتطوير فى الجيش المصرى، والذى عينه عبدالناصر منسقًا للمشروع.
ونجح العميل الإسرائيلى فى اختطاف العالم الألمانى ونقله إلى الحدود الفرنسية مخدرا، ثم وضعه على متن إحدى طائرات شركة «العال» الإسرائيلية إلى تل أبيب، وهناك تم سجنه فى منشأة سرية، وتعرض للاستجواب القاسى لإخبار «الموساد» عن كل التفاصيل التنظيمية والإدارية للمشروع، ثم انتهى الأمر باغتياله عبر إطلاق النار عليه.
من وقتها، استمرت إسرائيل فى استخدام طريقة الاغتيال على نطاق واسع، واستهدفت شخصيات كثيرة من جنسيات مختلفة، كان أشهرها ما تم أثناء تدمير المفاعل النووى العراقى عام ١٩٨١، واغتيال عدد من العلماء الذين عملوا فيه، على رأسهم العالم المصرى الدكتور يحيى المشد، هذا بالطبع إلى جانب اغتيال المئات من الرموز والشخصيات الفلسطينية.

العربات والهواتف المفخخة أشهر الوسائل.. والقتل البطىء بمعجون الأسنان الأغرب
فى إطار الكم الهائل من عمليات الاغتيال التى نفذها «الموساد» احتاجت الأجهزة الاستخبارية فى تل أبيب إلى تطوير آلياتها وتكتيكاتها من أجل تنفيذ القتل بطرق مبتكرة جديدة، يمكنها خداع الضحايا المستهدفين، فلجأت لاستخدام الطائرات المسيرة دون طيار، والهواتف المحمولة التى تنفجر فى مستخدميها، وبالطبع استخدمت الأجهزة السرية فى تل أبيب إطارات السيارات المفخخة والمزودة بقنابل يتم التحكم فيها عن بعد، لاغتيال عُلماء ونشطاء وسياسيين تعتبرهم معادين لها.
بعض طرق الاغتيال كان يتسم أيضا بالبطء الشديد، ويعتمد على تقنية مراكمة السموم بما يحد من القدرة على إنقاذ الضحية، وهو ما دفع إسرائيل لاعتماد تقنية معجون الأسنان السام، الذى قد يودى بحياة مستخدمه خلال شهر على الأكثر.
واستخدمت الطريقة الأخيرة لأول مرة عام ١٩٧٨ ضد وديع حداد، أحد مؤسسى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وأحد أكثر المطلوبين الفلسطينيين لدى إسرائيل، بعدما دبر له «الموساد» عملية اغتيال عن طريق تسميم معجون أسنانه.
واحتاج الأمر إلى اقتراب أحد الأشخاص من متعلقاته الشخصية، واستبدال معجون أسنانه بآخر مماثل يحوى سمومًا مميتة، طورها معهد إسرائيلى للبحوث البيولوجية.
وفى كل مرة كان حداد ينظف أسنانه تتسرب كمية دقيقة من السموم القاتلة إلى فمه، وتخترق الأغشية المخاطية فيه وتتسرب منها إلى الدم، حتى وصلت لمعدلات خطيرة. وتسببت الحادثة فى صدور أمر من المخابرات العراقية وقتها للعلماء العاملين فى مشروعاتها للاحتفاظ بفرشاة أسنانهم وأنابيب المعجون معهم فى أكياس خاصة أثناء خروجهم من العراق، واصطحابها إلى كل مكان خوفا من تسميمها، وهو ما حدث بالفعل بعدها مع اثنين منهم.
وفى العقد الأخير، اهتمت إسرائيل بتطبيق تقنية القتل على نطاق واسع مع العلماء والضباط الإيرانيين، ووفقا لكتاب «انهض واقتل أولًا» فإن «الموساد» الإسرائيلى هو المسئول عن اغتيال الضابط الإيرانى «حسن طهرانى مقدم»، الذى كان معروفًا باسم «عراب الصواريخ فى إيران».