رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشخصية المصرية وضرورات المستقبل


قفز إلى ذاكرتى كثير من الأحداث والصور حينما استمعت إلى ما طالب به الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى كلمته بمؤتمر الشباب السادس، من إعادة صياغة الشخصية المصرية، حيث حدد الهدف قائلًا: «نحتاج لتحرك قوى وفاعل لكى تتطور بما يتناسب مع متطلبات العصر والإنسانية».

إن الشخصية المصرية، فى تقديرى، بعناصرها المتنوعة وتركيبتها الفريدة الضاربة فى عمق التاريخ منذ ٧٠٠٠ سنة وحتى الآن فى حاجة إلى أن نحدد شكلها ومواصفاتها التى نريد بها اقتحام المستقبل.. وأن نبدأ فى وضع أيدينا على ما أصابها من تغييرات ثم علينا أيضًا التصدى للتحديات والصعاب التى تواجهها.. وأن نضع أيدينا أيضًا على الأيادى الخفية والمعلنة التى تحاول تدميرها.. وأن ندرك أننا نواجه تيارات دخيلة حاولت، وما زالت، طمس معالمها وتدمير مواصفاتها.. وأن هناك أموالًا كثيرة تضخ لتشويه وتغيير ملامح تلك الشخصية التى تميز المصريين عن غيرهم من الدول الأخرى.. لقد ظهر التيار المتطرف منذ نشأة تنظيم الإخوان المسلمين فى عام ١٩٢٨، ومن بعده تنظيمات أخرى خرجت من عباءته، تقوم بمحاولات وتضع خططًا متغيرة لكنها مستمرة لتغيير ملامح الشخصية المصرية فى الشكل والمضمون والاتجاه بها إلى مواصفات أخرى، كالانعزال والعنف والتكفير والتشدد والتزمت، وإحداث تغيير أيضًا فى شكل الملابس والهيئة الخارجية للمصرى والمصرية.. ولكن أيضًا لا بد أن ندرك أنه فى الوقت نفسه كان لدينا تيار التنوير القوى الذى صاحب بدايات القرن الماضى على يد رجال ونساء قادوا بلدنا إلى المستقبل ليأخذ الريادة والسبق فى كل المجالات فى المنطقة العربية.. فحظيت مصر بعدد كبير من المفكرين والأدباء والفنانين والإصلاحيين الذين تحركوا بمصر إلى الأمام وإلى التقدم، فكان لدينا سعد زغلول وهدى شعراوى ولطفى السيد وطه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم وسميرة موسى ولطفية النادى وطلعت حرب.. ومعهم تيار فنى فعال واكب هذا المد التنويرى، فكانت مصر فى مقدمة الدول المتقدمة والثرية والرائدة، ولم يفلح تيار التشدد والتزمت فى اقتلاع جذور التنوير طوال عقود.

لكن مع بداية الثمانينيات نتذكر سفر آلاف من المصريين للعمل فى بعض الدول الشقيقة، الذين عادوا بتغيير فى شكل الملابس والمظهر الحديث، وهكذا بدأ تأثير الحركات الوهابية يلقى بظلاله على المجتمع المصرى مع عودة هؤلاء إلى مصر فى إجازات أو عودة دائمة، وبدأ بث موجة من الأفكار المتطرفة والمتشددة، وبدأ استغلال الدين بطرق ملتوية لتحقيق أهداف سياسية خفية ومحاولات إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، وشيئًا فشيئًا بدأت محاولات تغيير مواصفات الشخصية المصرية التى نعرفها.. ثم حدثت الكارثة الكبرى فى تحالف دولى جديد لبث الأفكار المتطرفة وإحداث فوضى فى داخل بلدنا، من خلال بث الفتاوى المتطرفة من دعاة جدد تم تقديمهم من خلال فضائيات عديدة لنشر الأفكار المتطرفة، وتحجيم تيار التنوير، وتحريم كل شىء وأى شىء، واستخدام الدين دون حدود ودون أسانيد حقيقية لإعادة المجتمع المصرى إلى عصور الجاهلية، وهكذا أصبحت المرأة عورة ولا بد من تغطية ملامحها، والرجل لا بد أن يرتدى الجلباب القصير، ولا بد أن تصبح اللحى طويلة، والبنات يحرم عليهن اختيار طريق حياتهن، والفن حرام والأدب حرام، والكنائس تُحرق، والمساجد تُدار من خلال أفكار التطرف والتكفير للآخرين.

وبدأت محاولات إشعال الفتنة بين المسلم والمسيحى لأن خطة برنارد لويس، التى وضعها فى ١٩٨٣، قد حان موعد تنفيذها.. وهكذا اندس المتطرفون فى صفوف المتظاهرين فى يناير ٢٠١١، وبالتعاون مع الحليفة الكبرى أمريكا تم توليهم السلطة لمدة عام.
لكن كل الخطط فشلت، فى تقديرى، مع قيام ثورة ٣٠ يونيو الحاشدة، بسبب جوهرى لم يدركة المتآمرون على مصر، وهو أن الشخصية المصرية لا تزال جذورها قوية وممتدة بداخل تركيبة غالبية أبناء الشعب المصرى.
إن هذه الشخصية هى التى رفضت التطرف والعنف والظلام والكآبة والتشدد والتزمت المقيت، فخرج صوتها هادرًا مزلزلًا يطالب برحيل حكم الظلام.. وإلى الأبد.إن هذه الشخصية المصرية التى نريدها أن تنطلق نحو المستقبل لا بد أن تنفض عنها غبار الشكل غير المصرى فى الملابس للنساء والرجال.. إنها أول خطوة، لكنها خطوة لا بد أن نبدأها ليصبح شكل المصرى مصريًا أنيقًا ومهندمًا، والمصرية أنيقة ومهندمة، فى الشوارع والجامعات والأندية وساحات الشباب، وفى المدارس وفى البيوت.. ولا تقولوا لى إن الشكل غير مهم فأنا أعلم ذلك، لكن أيضًا الشكل يكون مهمًا لأنهم حاولوا تغييره منذ نهاية الثمانينيات.. إن نظرة واحدة لصور حفلات أم كلثوم ستظهر للقارئ أناقة المصريين وحبهم للفن الراقى وعشقهم للحياة والموسيقى. إن نظرة مقارنة بين شكل بنات الجامعة فى السبعينيات والآن ستجعلنا ندرك أن الخسارة فادحة فى شكل الملابس المصرية، خاصة فى ملابس النساء، حيث لا تزال هناك محاولات مستمرة نجحت فى بعض المواقع فى بلدنا للأسف، حيث نجد فى بعض مناطق من بلدنا أن المرأة المصرية قد أصبحت مختفية وراء نقاب أسود.. إن نظرة واحدة للأفلام المصرية فى زمن الأبيض والأسود ستجعلنا ندرك رقى ملامح الشخصية المصرية الحقيقية قبل محاولات تشويهها الحالية.. إننا نريد أن يكون مجتمعنا كله مصرى الهوى والثقافة والشكل والمضمون، ونريد أيضًا فى الوقت نفسه أن نتحرك نحو استنارة العقول منذ الصغر وصياغتها فى البيت والمدرسة والجامعة، لنلحق بركب الدول المتقدمة، ولنستوعب تغييرات العصر السريعة.. ينبغى أن نواجه المستقبل بعقول واعية محبة للحياة والفنون والثقافة والعمل والانتماء لأرض طيبة عريقة، مهد الحضارة وأرض السلام والتقدم والعراقة.. دعونا نتمسك بملامح مصريتنا ونرفض كل الأشكال ذات الأنماط الدخيلة علينا، ونفخر بأننا نتقدم للأمام دائمًا.. ذات ليلة كنت ذاهبة لشراء بعض حاجات لبيتى، فخرج لى من الظلام رجل يرتدى جِلْبابًا قصيرًا ولة لحية طويلة، كان كالشبح، وتسير خلفه امرأة بنقاب أسود طويل، بدت هى أيضًا كالشبح الأسود المرعب.. وعندما دخلا إلى السوبر ماركت أدركت من لهجته أنه للأسف مصرى لكنه، وللأسف أيضًا، انساق وراء دعوات التطرف ومحاولات تغيير ملامح مصريته، ففقد كل أصوله وتاهت منه بوصلة الطريق.. كان فى حاجة إلى من يقول له أنت مصرى، فلماذا انسقت وراء وهم تغيير شخصيتك وتغييب أصالتك وطمس جذورك التى كان من الأكرم لك أن تفتخر بها؟.. ولحظتها تمنيتُ أن يكون لدينا قانون يمنع هذه التحولات الغريبة فى شكل الملابس باعتبارها محاولات لطمس الشخصية المصرية.. تمنيتُ أن يظهر شرطى مصرى ليأخذ منه غرامة كبيرة وموجعة، تحت بند خيانة الشخصية المصرية.