رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الفكر الدينى وقبول الآخر


فكرة الدين والتدين. البحث عن إله يعبد وتقدم له الصلوات وتقام له الطقوس. فكرة التوحيد والوحدانية كلها أفكار أقرب للمفهوم الفطرى للإنسان يحبها قبل أن يدركها ويتعامل معها قبل أن يعقلها، حيث إن فكرة الألوهية بمفهومها البسيط بدأت عندما أمر الله آدم بألا يأكل من شجرة المعرفة فكانت بداية تعامل آدم «الإنسان» مع الله فى الإطار البسيط والمبسط الذى يتوافق مع قدراته.
هنا كانت بداية التأهيل لفكرة الألوهية والتعرف على الإله الواحد، فلم تكن هناك تعددية دينية حيث لا تعددية بشرية كانت حين ذاك. ولما كان الإنسان هو معجزة الله فى هذا الكون، حيث سخر له كل الأشياء لتعمل لصالحه، حيث كان الإنسان قبل الأديان فكانت حكمة الله فى التعددية الدينية حتى تتماشى وتتوافق مع تلك التعددية البشرية التى تراكمت وتصاعدت بعد ذلك، ولكن هذه التعددية الدينية كانت وستظل فى إطار وحدانية وتوحد الإله الواحد، الذى لا شريك له.. ومع طور الإنسان قدرة وثقافة وفكرا واتساع أفق كانت هذه التعددية اختيارا إلهيًا حتى تكون للإنسان حرية الاختيار، تلك الحرية المسئولة التى يعقبها حساب كشرط لهذا التعاقد بين الله والإنسان «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». «أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء والمرسلين إليها كم من مرة أردت أن أجمع بنينك كما تجمع الدجاجة فراخها وأنت لم تريدى» هنا تعارضت إرادة واختيار أورشليم مع إرادة الله فماذا كان؟ التكملة «يترك لكم بيتكم خرابًا» إذن لازم لهذه التعددية حسب الإرادة الإلهية حرية الاختيار فى أن يختار الإنسان كما يريد من عقائد لا تخرج عن عبادة الله الواحد خالق الإنسان ومسير هذا الكون وإرادة التعددية الدينية واضحة وضوح الشمس فى النصوص الدينية للأديان السماوية «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا» «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين»، «لقد أرسلنا لكل أمة رسولًا». «من ليس لهم ناموس هم ناموس لأنفسهم». هذه النصوص وغيرها كثير تؤكد إرادة الله فى أن تكون هذه التعددية الدينية حتى تتوافق مع الإنسان فى الزمان والمكان والعوامل الاجتماعية والثقافية التى تحكم الاختيار، ناهيك عن عملية التوريث الدينى التى لا تترك للفرد حرية الاختيار ولكن، وهذا هو الأهم، لم تترك الأمور لأهواء البشر ولا لمصالحهم الذاتية ومنافعهم الشخصية فكانت حرية الاختيار منحة الله للإنسان، حيث إن الله وحده وليس آخر الذى سيحاسب الجميع بلا استثناء على هذا الاختيار سواء كان أديانا سماوية أو أديانا وضعية أو حتى عدم إيمان بالله من الأساس. «إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شىء شهيد» وهذا يعنى أن على كل مؤمن بدين أن يعلم أن تمسكه بعقيدته واختياره لها لا يعنى أنه يمتلك الحقيقة المطلقة فى مواجهة الآخر غير الدينى أو أن من حقه محاسبة من يختلف معه فى الدين، باعتباره خارجًا عن دين الحق، متمسكًا بدين الضلال، نعم من حق كل متدين أن يتمسك بدينه وأن يؤمن بحقيقة دينه وصحته ولكن يعلم أيضًا أن هذا الحق الذى يمتلكه ويمارسه هو حق للآخر المختلف عنه دينيًا لأن هذا الحق قد منحه الله للجميع، حيث إنه سبحانه هو الذى سيشهد وسيحاسب الجميع. بل إن حكمة الله العليا قد حددت لكل صاحب دين كيف يعامل الآخر المختلف معه فى الدين لتأكيد التعددية الدينية ذلك الاختيار الإلهى. «إنما ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين»، «حبوا أعداءكم باركوا لاعينكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، صلوا من أجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم».. هذه هى حكمة الله وإرادته فى التعددية، حيث إن الإنسان، مطلق إنسان هو خلقة الله، والله هو الذى وضح وحدد التعامل المشترك بين البشر من خلال ما يسمى المقاصد العليا للأديان، التى تتوافق وتتفق بعضها مع البعض الآخر، فالمقاصد العليا وهى القيم العليا الحاكمة للأديان وليس لدين بذاته، وهذه القيم لا تختلف فى جوهرها فى كل الأديان مثل التسامح والمحبة والصدق والأمانة والعمل على حفظ الروح فلا تقتل ولا تزنى ولا تسرق ولكن لو كان الأمر ذلك فلماذا نرى ما نرى من صراع أصحاب الأديان وليس صراع الأديان. فالأديان تتكامل وتتحاور لأن مصدرها واحد وهدفها واحد. فالكل يعبد الإله الواحد، وإن اختلفت العقائد وتعددت الطقوس ولكن صراع المتدينين لا علاقة له بجوهر وحقيقة الدين والنص الدينى. ولكن الإشكالية هى تفسير النص الدينى وهو ما يسمى الفكر الدينى، فالدين هو النص الدينى الذى لا خلاف حوله. ولكن الفكر الدينى هو فكر البشر فى تفسير هذا النص، هنا تختلف التفاسير وتتباين الاجتهادات وتتعدد التأويلات، ولذلك لا بد من تصحيح هذا الفكر الدينى وليس الخطاب الدينى، فالخطاب هو تلك الوسائل المتعددة التى تنقل هذا الفكر الدينى إلى المتلقى، هنا تتحدد المشكلة فى رفض الآخر الدينى وغير الدينى، مع العلم بأن الدين الحقيقى والإيمان الصحيح يجسد قبول الآخر شكلا وموضوعا، ولكن الإشكالية فى هذا التدين الشكلى الذى يختصر الدين بقيمه ومقاصده فى أشكال دينية تكرس الطائفية وتؤكد الفرز الطائفى الذى يعتمد على رفض الآخر والتعالى عليه والتمايز ضده، الشىء الذى يبعدنا عن الدين وسماحته كما أن رفض الآخر يؤسس لفرقة وتفرق وتشرذم يصيب الوطن فى مقتل ويعطى الفرصة للمتربصين بالوطن.. الله أحبنا والدين حب والوطن يحتاج إلى كل الحب.