رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المحتال التركى يحلف من جديد «1-2»


مبنى السفارة الأمريكية في القدس المحتلة، قامت بتصميمه وستتولى تنفيذه وتشييده شركة تركية مملوكة لرجل أعمال تركي، وثيق الصلة بالرئيس التركي، وبحزب العدالة والتنمية الحاكم. ومع أن نفي الشركة جاء ساذجًا متهافتًا، إلا أن بعض الطيبين اقتنعوا به، وتعامل معه المركوبون، ذهنيًا، كما لو كان «وثيقة» دامغة غير قابلة للنقاش. وفات هؤلاء وأولئك أن قدامى الحكماء وضعوا قاعدة، أثبتت ملايين الوقائع صحتها: «قالوا للحرامي احلف، قال جالك الفرج». وطبيعي أن تنسحب القاعدة على النصاب، المحتال، أو محترفي اللعب بالورقات الثلاث.

ما كنت أريد المشاركة في حفلات الهجوم أو السخرية، من المعلومة القديمة أو النفي الجديد، نسبيًا، لأن الخبر لم يدهشني، وسبق أن أوضحت، استنادًا إلى وقائع ثابتة، أن الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» ليس أكثر من تاجر «شاطر»، ليس لديه أي مانع من بيع أي شيء للإسرائيليين قبل الأمريكيين، وأن شعاره غير الخافي إلا على الموهومين أو البهاليل هو: «اللي تغلب به العب به». وبالشطارة نفسها يلعب بعقول البسطاء، البلهاء والطيبين، ويؤلف قلوب وجيوب مَنْ يوصفون بالمثقفين أو المفكرين، الذين اعتادوا تبرير جرائمه، واستقبال تقيؤاته بزغاريد كالشهب مع تصفيق حاد، على إيقاع راقص!.

المعلومة، الفضيحة، كشفتها صحف ومواقع إلكترونية وشبكات تليفزيونية أمريكية، بينها شبكة «سي إن إن»، ووكالة «يو بي أي»، وموقع «المونيتور»، وأكدتها قاعدة البيانات الرسمية للإنفاق الفيدرالي الأمريكي، «USAspending»، التي لو دخلت على موقعها الإلكتروني ستجده يقول بوضوح إن شركة «ديسبلد ليماك» فازت بعقد تصميم وتشييد مبنى السفارة الأمريكية في مدينة القدس المحتلة، وإن قيمة التعاقد تجاوزت الـ٢١ مليون دولار. وليس صحيحًا أن التعاقد فاز به تحالف من ثلاث شركات، كما زعمت مواقع عربية، قامت بفك الاسم الواحد إلى ثلاثة: «DESBUILD LIMAK D&K JV LLC»، لأن هذا الاسم كله أو «على بعضه» هو اسم التحالف أو الشركة الناتجة عن تحالف شركتي «ديسبلد إنكوربوريتد» الأمريكية، و«ليماك هولدنج» التركية.

لم يدهشني الخبر وما كنت أريد المشاركة في حفلات الهجوم أو السخرية، لولا ذلك الاستعراض أو «الشو» الذي تكرر كثيرًا بين نتنياهو وأردوغان، الخصمين شكلًا، الحليفين موضوعًا، الذي رأينا فيه، كالعادة، رئيس الوزراء الإسرائيلي يهاجم بشدة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد انتقادات حادة وجهها الأخير إلى قانون الدولة القومية اليهودية الذي أقره الكنيست قبل أيام. وصف أردوغان إسرائيل بأنها «الدولة الأكثر صيهونية وفاشية وعنصرية في العالم»، وأنه لا فرق بين هوس الجنس الآري لهتلر واعتبار الحكومة الإسرائيلية أن هذه الأراضي القديمة تعود لليهود فقط، ودعا العالم للتحرك ضد إسرائيل. وجاء رد نتنياهو، في بيان، أعلن فيه أن أردوغان يذبح السوريين والأكراد ويسجن عشرات الآلاف من المواطنين الأتراك. وأنّ تركيا تحولت تحت حكمه إلى ديكتاتورية مظلمة. وأكد أن الهجوم الذي شنه الرئيس التركي على قانون القومية هو أكبر إطراء بالنسبة لهذا القانون.

هكذا صارت المشاركة في حفلة الهجوم والسخرية واجبة، وطبيعي أن تكون البداية من محاولة النفي التي لن يقبلها إلا ساذج، إذ إن أي طفل صغير يعرف أن التقدم إلى مناقصات من هذا النوع، أو غيره، لا يكون إلا بعد موافقة مجلس الإدارة: مجلس إدارة الشركة التي قدمت العرض ثم فازت بالمناقصة، أي مجلس إدارة التحالف. وبديهي أن الشركة الأمريكية التركية لا يمكنها أن تخطو مثل تلك الخطوة دون موافقة نصفها التركي. وبديهي أيضًا أن شركة «ليماك» التركية لو لم تكن تريد المشاركة في تلك المناقصة، لتم توقيع العقد باسم «Desbuild Ink»، الأمر الذي لم يحدث، كما هو واضح في موقع «USAspending» أو قاعدة البيانات الرسمية للإنفاق الفيدرالي الأمريكي.

محاولات النفي التي شارك فيها ياسين أقطاي، نائب رئيس «حزب العدالة والتنمية»، الحزب التركي الحاكم، في حسابه على «تويتر»، لم أخرج منها إلا بثبوت قوة علاقة الرئيس التركي وحزبه برجل الأعمال التركي نهاد أوزدمير، صاحب شركة ليماك هولدنج للإنشاءات. وهنا، ربما تكون الإشارة مهمة إلى أن الشريك الأمريكي، أي شركة «ديسبلد إنكوربوريتد» الأمريكية، أو التي من المفترض أنها أمريكية، مملوكة لرجل أعمال «هندي» اسمه براكاش هوسادورجا. وكان موقع «المونيتور» قد ذكر في تقريره، المنشور ١٢ مايو، أنه تواصل مع الشركة التركية ورفضت التعليق. لكن في ٢٢ مايو، وبعد حملة الانتقادات أو الحفلات التي شنتها وسائل إعلام عربية، وشبكات التواصل الاجتماعي، نقل موقع «سينديكا» التركي عن إفريم إنجين، المسئول الإعلامي لـ«ليماك» أن شركته أكّدت لشركة «ديسبلد» الأمريكية التي عملت معها في مشروعات سابقة، أنها لن تشارك في مناقصة بناء السفارة الأمريكية في القدس، وأكد أن «ديسبلد» ستتولى تنفيذ هذا العمل بمفردها.

شركة رجل الأعمال التركي وثيق الصلة بأردوغان وحزبه، ليست هي شركة الإنشاءات الوحيدة التي تعمل في الأراضي العربية المحتلة. في ٦ أبريل ٢٠١٦ وتحت عنوان «الأتراك عائدون.. ويقومون ببناء نصف أبراج تلك أبيب»، ذكرت جريدة «هآرتس» أن ما يقرب من نصف المباني شاهقة الارتفاع في تل أبيب، شيدتها شركات تركية. وأوضحت الجريدة الإسرائيلية أن ما حققته شركة «يلمازلار» التركية، من إنجازات مبهرة في تل أبيب، بطاقم عمالها وموظفيها الأتراك، شجع وزارتي المالية والإسكان الإسرائيليتين على الاستعانة بست شركات أخرى، من أجل تقديم تكنولوجيا بناء أفضل وأسرع، وهو ما فعلته شركة «يلمازلار» طوال ٢٠ سنة، قامت خلالها بتشييد الأبراج العالية، باستخدام تقنيات صناعية عالية، وقوالب بنائية مصنوعة مسبقًا في ألمانيا.

شركة «يلمازلار» للإنشاءات، طبقًا لما ذكره تقرير جريدة «هآرتس»، يتركز نشاطها في المنطقة الحيوية المحيطة بمركز Gindi TLV التجاري في تل أبيب، ومملوكة للأخوين أحمد وعدنان يلماز، وبدأت عملها داخل إسرائيل في بداية التسعينيات، وشاركت في خطة الحكومة الإسرائيلية من أجل توفير مساكن لعدد المهاجرين الضخم القادم من الاتحاد السوفيتي السابق، واعتادت تقليل المدة المحددة للانتهاء من المشروعات، بمعدل ستة أشهر. وتشارك في الوقت الحالي (وقت نشر التقرير) في خطة لتخفيض أسعار العقارات.

الأكثر من ذلك، هو شركات الإنشاءات التركية التي يعمل بعضها في إسرائيل منذ ٢٠ سنة، وكذا الشركة التي ستبدأ عملها هذا العام ببناء السفارة الأمريكية، لا تستخدم مهندسين وعمالًا أتراكًا فحسب، بل تستخدم أيضًا مواد خام تركية. إذ كشف التقرير السنوي لدائرة الإحصاء التركي عن سنة ٢٠١٧، أن تركيا حلت في المرتبة الأولى في قائمة الدول المصدِّرة للأسمنت والحديد إلى إسرائيل. إذ ذكر التقرير أن ٥٩٪ من إجمالي ما استوردته إسرائيل من الأسمنت يأتي من تركيا، وأن ٤٥٪ من إجمالي ما استوردته من الحديد جاء أيضًا من تركيا. والأهم هو أن التقرير الرسمي أوضح أن أنقرة حافظت، منذ سنة ٢٠٠٢ حتى ٢٠١٧، على بقائها في صدارة قائمة الدول التي تزود إسرائيل بالأسمنت والحديد.

بهذا الشكل، لا يكون منطقيًا أن تقتنع بنفي الشركة التركية قيامها بتصميم وتشييد مبنى السفارة الأمريكية في القدس المحتلة. أما إذا اقتنعت، وإذا لم تجد في كل الخشب السابق ما يكفي لتتراجع، أو لو كان لديك بعير لا يزال يصر على السجود للرئيس التركي، أعدك بأن تجد غدًا مزيدًا من الخشب، مع القشة التي ستقصم ظهرك وظهر هذا البعير!.