رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد قطب يكتب: أطلقوا الشواطئ عارية.. ولا تخافوا من المايوه

سيد قطب
سيد قطب

نحن اليوم فى الأسبوع الثانى من شهر يوليو، شهر الشواطئ والمصايف، ومع هذا فشواطئ الإسكندرية «المصيف المصرى الأول» لا تزال ميتة، لم تدب فيها الحياة، والكبينات مغلقة كالأديرة الموشحة، والديار المهجورة تناجى البحر، والبحر يناجيها، عما سلف، وعما كان.
وليس على الشاطئ إلا بضع عشرات كلهم من أهالى الإسكندرية وأطفالها.
و«ستانلى» عروس الشواطئ خامد الحس والحركة، تجثم الكآبة على صدره، وهو المرح اللعوب الطروب.

أما «سيدى بشر» الهادئ الوقور، فهو اليوم كاسف واجم. فلولا بضعة الأطفال وبضع الصبيات فى رقم ١ لكان ميتًا كرقمى ٢ و٣ اللذين لم يؤمهما إلا بضع أسر متوسطة تعد على الأصابع.
أما الشواطئ الأخرى: «كامب سيزر- جليمنوبولو - الشاطبى» فلا داعى للحديث عنها، إذا كان ذلك شأن ستانلى وسيدى بشر.
وقد سمعت أن «رأس البر» خاوٍ فارغ كذلك، ولم أسمع عن أبى قير والمندرة أو بورسعيد والإسماعيلية شيئًا، ولكن هذه كانت لا تزدحم حين تزدحم شواطئ الإسكندرية، فكيف بها الآن؟.
وبينما الحال كذلك فى شواطئنا، تقوم أمس باخرتان من الإسكندرية وليس فيهما موضع لقدم، وكثيرون لم يستطيعوا حجز تذاكرهم عليهما فانتظروا البواخر التالية. ويتزاحم المصطافون فى الخارج على السفر إلى أوروبا ولبنان وسواهما والشواطئ المصرية تموت واحدًا بعد الآخر.
لا شك أن هذه خسارة كبيرة للشواطئ المصرية، خسارة مادية وأدبية. فالإسكندرية التى كانت تبدو فى فصل الصيف نشيطة رشيقة، هى اليوم نائمة خامدة، حتى شوارعها يخيم عليها السكون.
والمقاهى ودور السينما ومحال التجارة، لا يبدو أنها فى موسم، بل ربما كان الشتاء أبهج وأكثر حركة ورواجًا.
وألوف الجنيهات تتدفق على شركات السفن وشركات السياحة والفنادق الأجنبية، وكأن الأمر لا يعنينا ولا يعنى الاقتصاد الأهلى والثروة القومية المهددة بالبوار.
لا شك أن الكثيرين من الذاهبين للخارج، لا يقيمون لهذه الاعتبارات القومية وزنًا، ولا تخطر على بالهم.
ولكن لا شك كذلك أن كثيرين منهم معذورون إذا زهدوا فى المصايف المصرية، وهى مصايف عاطلة عن كل إغراء، فقيرة بل مهملة من الجاذبية وقصدوا المصايف الحية المفرحة مع فروق غير كبيرة فى النفقات.
ليس على الشاطئ المصرى إلا «البحر» وحده جميلًا يستهوى الألباب بموجه الجياش، يرتل فى ثورته وهدوئه آية الطبيعة الأبدية، ويحدث عن عظمة الكون وعن الحياة الكامنة فى ضميره، المتفجرة على صفحته.
وحول البحر خواء ميت لا جاذبية ولا تسلية ولا حياة.
وجمال البحر وحده على عبقريته، لا يستهوى إلا النفوس الشاعرة، ذات الطبائع الفنية، والخيال المنهوم، والحيوية الزاخرة، وتسعون فى المائة من أثريائنا قد عوضهم الله عن هذه الفطرة الموهوبة، بالمال المكسوب، فهم ينشدون المتعة، ويطلبون الفرجة، ويريدون الصيف للهو واللعب والتسلية المشوقة.
فماذا أعددنا لهؤلاء جميعًا - وهم أصحاب الثروة فى البلد- من وسائل التسلية والاستمتاع على الشطآن؟ لا شىء حتى الأجسام العارية الرشيقة لا وجود لها، وإن العين لتتخطى عشرات القدود، حتى تقع على قدٍّ رشيق، لأن الطبقات التى قصدت المصايف فى هذا العام، ليست على ما يرام.
فإذا نحن لُمنا هؤلاء المفتونين بأوروبا ومصايفها، فيجب قبل ذلك أن نلوم الحكومة والشركات التى لا تعمل شيئًا لتجميل المصايف المصرية وإدخال وسائل التسلية والمتعة والتشويق.
أما حديث «الأجسام العارية»، فقد كان لى فيه رأى منذ سنوات، لا بأس من إبدائه:
إن الذين يتصورون العُرى على الشاطئ فى صورته البشعة الحيوانية المخيفة جد واهمين، وهم: إما لم يذهبوا إلى الشاطئ، ولكن قرأوا أو رأوا الصور منشورة فى الصحف، وإما ذهبوا وفى نيتهم أن ينتقدوا فعاشوا فى هذه الصورة الخيالية المشوهة فى أذهانهم، ولم يعيشوا على الشاطئ والأمواج.
ليس فى الجسم العارى على «البلاج» فتنة لمن يشاهده ويراه فى متناول عينه كل لحظة، وفتن الأجسام هناك، هى المستترة فى «البُرنس» أو «الفستان»، أما فى «المايوه» فهى لا تجذب ولا تثير وإن أثارت شيئًا فهو الإعجاب الفنى البعيد- بقدر ما يستطاع - عن النظرة المخوفة المرهوبة.
لقد كنت أحسبنى وحدى فى هذه الخلة، ولكنى صادفت الكثيرين، ممن لم يوهبوا طبيعة فنية، ولا موهبة شعرية، فلاحظت أن «الأجسام» تمر بهم عارية فلا تثير كثيرًا من انتباههم، بينما تتسع الحدقات وتتلفت الأعناق، إذا خطرت فتاة مستترة، تخفى الكثير وتظهر القليل وحادثتهم فى ذلك فصدقوا رأيى.
فالذين يدعون إلى إطالة «لباس» البحر وإلى ستر الأجسام بالبرانس، إنما يدعون فى الواقع إلى إثارة الفتنة النائمة، وإيقاظ الشهوات الهادئة، وهم يحسبون أنهم مصلحون.
إن صورة واحدة عارية مما ينشر فى الصحف، أفتن من شاطئ كامل يموج بالعاريات، لأن الصورة المصغرة، تثير الخيال، الذى يأخذ فى تكبيرها والتطلع إلى ما وراءها من حقيقة. وهذا هو الخطر. أما الجسم العارى نفسه فليس فيه ما يثير الخيال، لأنه واضح مكشوف.
وسيعسر على الكثيرين تصديق هذه الحقيقة، أما الذين ذهبوا إلى الشاطئ وهم مجردون من الرأى السابق فيها، ومن التحفز لمرائيها، فيعلمون فى ذات أنفسهم صدق ما أقول.
على أن رياضة السباحة والقفز والجرى على الرمال، وهواء البحر الملطف، تصرف البقية الباقية من الطاقة الكامنة، التى لم يصرفها الكشف والوضوح والاستمتاع لحظة لحظة، وخاطرة خاطرة، حتى لا يبقى فى هذه الطاقة مخزون مكبوت، يتحين الفرصة للانفجار.
أطلقوا الشواطئ عارية لاعبة، أيها المصلحون الغيورون على الأخلاق، فذلك خير ضمان لتهدئة الشهوات الجامحة وخير ضامن للأخلاق.