رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوسف الـ.. صدّيق.. تكريم تأخر كثيرًا


وأخيرًا، تم تكريم يوسف منصور يوسف صديق، وهذا هو الاسم الكامل للعقيد أركان حرب يوسف صديق، الذي اعتدت «ككثيرين» كتابة لقبه مسبوقًا بالألف واللام، الصدّيق، ليس فقط لأنه صاحب الفضل الأكبر والدور الأبرز في نجاح ثورة ٢٣ يوليو، ولكن أيضًا لكونه أحد أكثر من شاركوا فيها نقاءً ونبلًا، وأكثر أعضاء مجلس قيادة الثورة إخلاصًا لمبادئه التي كانت هي نفسها مبادئ الثورة، أو الجزء الأكبر منها.

ظلموه حيًا وميتًا، وظل اسمه، طوال ٦٥ سنة مرت على الثورة، و٤٢ سنة على وفاته، لا يحمل أي وسام أو نوط عسكري أو قلادة جمهورية أو حتى شهادة تقدير. وقبل ساعات من الذكرى الـ٦٦ للثورة، قرر رئيس الجمهورية، القائد الأعلى لقواتنا المسلحة، يوم ٢٢ يوليو ٢٠١٨، أن يضعه على صدر سجلات الشرف، وقام بالتصديق على منح اسمه، اسم يوسف صديق، قلادة النيل، أرفع وسام مصري. وكأن الرئيس أراد أن يثبت صحة ما قاله «الصديق» في حوار نشرته «روزاليوسف» في ٢٩ مارس ١٩٥٤: «أكتب على لساني أننا كنا واثقين من أن الجيش قد أصبح من الوعي بحيث لا يمكن استخدامه ضد الشعب أو لمصلحة فرد أو أفراد وإنه سيكون دائمًا وأبدًا جيش الشعب وفي خدمة الشعب فحسب».

كما أنقذ يوسف الصديق «النبي» مصر وما حولها من مصير «سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات»، تحرّك يوسف الصديق «الثائر» قبل الموعد الذي اختاروه للثورة، فأنقذ تنظيم الضباط الأحرار وأنقذ مصر كلها من مصير يسهل توقعه. إذ كانت ‏ساعة‏ ‏الصفر‏ هي‏ الثانية عشرة مساءً، وبعد تعديلها إلى ‏الواحدة صباحًا تم إبلاغ جميع ضباط الحركة بالموعد الجديد عدا يوسف صديق الذي قام بتنفيذ خطة الاستيلاء على قيادة الجيش في الساعة الثانية عشرة، منتصف ليل ٢٢-٢٣ يوليو١٩٥٢. وكان قادة الجيش مجتمعين في ساعته وتاريخه، تمهيدًا لسحق الثورة «أو الانقلاب» بعد أن وصلت المعلومة وبعض التفاصيل إلى الملك، وأمر القيادة باتخاذ إجراء مضاد على وجه السرعة.

هكذا، كان «الصدّيق» هو صاحب الضربة الاستباقية التي لولاها ما نجحت الثورة التي وصفها في مذكراته بأنها كانت «بمثابة الشرارة الأولى التي اندلعت في حركة تحرير الشعوب. بعد الحرب العالمية الثانية»، وأنه يسجد لله شكرًا على أن هيأ له أن يكون «الشرارة الأولى التي اندلعت في هذه الثورة الخالدة». ومع ذلك، كان الصديق هو أول من استقال من مجلس قيادة الثورة بعد ٧ أشهر بسبب: انحراف الثورة وانتكاسها.. تنكّر الضباط الأحرار لمبدأ إقامة حياة ديمقراطية سليمة وللوعد بتسليم البلاد إلى حكم برلماني مدني.. اعتقال ضباط من سلاح المدفعية ثاروا ضد ذلك التوجه. واقترح تشكيل حكومة ائتلافية تمثل التيارات السياسية المختلفة يرأسها الفقيه الدستوري وحيد رأفت، العضو الوحيد بين أعضاء مجلس الدولة العشرة، الذي رأى دستورية دعوة برلمان ما قبل الثورة للانعقاد. والكلام أنقله من نص رسالة وجهها يوسف صديق إلى الرئيس محمد نجيب في١٧ مارس ١٩٥٤، ونشرتها جريدة «المصري» في ٢٤ مارس ١٩٥٤.

منح قلادة النيل لاسم يوسف صديق هو أول تكريم رسمي لهذا الفارس النبيل. لكن مع الأسف، وبدلًا من الاحتفاء بالرجل المعاد إليه اعتباره، حاول البعض أن ينالوا من جمال عبدالناصر ومن ثورة يوليو كلها، وتم إقحام التكريم ومن تم تكريمه، في كلام سخيف معاد تدويره اعتدنا أن نقرأه ونسمعه، في «الموسم السنوي للكلام عن ٢٣ يوليو ١٩٥٢»، والوصف للدكتور شريف يونس، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان، الذي لخص الجدل المتجدد المتكرر في أنه كلام معتاد عن الديكتاتورية الناصرية وحكم العسكر، مقابل كلام آخر عن الوطنية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية، مع تكرار نقد النظام القديم، حكم الباشوات. وهو الجدل الذي لا يظن يونس (وأنا معه) أنه سينتهي قريبًا، لأن نقاشات الوضع الحاضر نفسها تغذي ما وصفها بـ«النزعة الشعاراتية وحب الإكليشيهات»، ولا تُضعفها.

لشريف يونس كتاب عن الناصرية، أوضح فيه أن «الناصرية، بمشكلاتها ومنجزاتها وطموحاتها هي نحن، نحن أنفسنا، وتجاوزها يعني أن نتجاوز أنفسنا تلك، التي مثلت الشرط الكافي لتكوُّنها». وهو واحد من عقلاء قليلين يطالبون بضرورة أن نتذكر جيدًا في أي نقاش جدي عن الناصرية أنها لم تأت من فراغ، ولم تكن نقمة هبطت من السماء على جنة سياسية واجتماعية، ولا كانت نعمة أتت لتنقذ البلاد من خراب شامل. وأن دولة يوليو كان أهم أعمدتها الجيش، لكنها لم تكن حكمًا عسكريًا. لأن الجيش لم يكن يحكم بشكل مباشر، بل كان أهم مركز قوة داخل النظام، بعد رئاسة الجمهورية التي كانت دومًا محور السلطة، على الأقل منذ ١٩٥٥. دون أن ينفي أهمية المكون العسكري للجمهورية الأولى، الذي هو مكون مهم ومؤثر بالفعل، لكنه يشير فقط إلى أن وضعه مسألة معقدة لا تصلح معها الشعاراتية الغوغائية.

المسألة فعلًا معقدة، ولا تصلح معها الشعاراتية الغوغائية. ودون فك هذا التعقيد، لا يمكنك التعامل مع حالة يوسف صديق «الصديق» الذي أبعده محمد نجيب إلى سويسرا ولبنان، وبتولي جمال عبدالناصر الحكم تم اعتقاله ١٣ شهرًا. وفي صيف ١٩٧٠ سافر إلى الاتحاد السوفيتي للعلاج. وهناك، تلقى يوم ٢٨ سبتمبر سنة ١٩٧٠ خبر وفاة عبدالناصر، فأرسل من موسكو، برقية عزاء لنائب الرئيس، الرئيس لاحقًا، أنور السادات، وكتب قصيدة عنوانها «دمعة على البطل» رثى فيها عبدالناصر: أبا الثوارِ هل سامحتَ دمعي.. يفيض وصوت نعيك ملء سمعي؟/ وكنا قد تعاهدنا قديمًا.. على ترك الدموع لذاتِ روعِ/ وأن الخطبَ يحسم بالتصدي.. لهول الخطبِ في سيفٍ ودرعِ/ ولكن زلزل الأركان مني.. وهزَّ تماسكي من جاء ينعي/ بكتكَ عيون أهل الأرض حولي.. فكيف أصون بين الناسِ دمعي؟.

قبل وفاته، كتب «الصديق» رسالة إلى الرئيس السادات يوصيه فيها بالديمقراطية.. الفقراء.. وبناته، اللاتي رأينا أصغرهن ليلى يوسف صديق تتسلم قلادة النيل، من الرئيس عبدالفتاح السيسي، بينما كان صوت مدحت صالح، والد ابنيها أدهم وهانيا، يغني في الخلفية: «إحنا الظباط الأحرار.. م الجيش المصري الجبار.. حانسطّر مجدك يا بلدنا.. ونحول لياليكي نهار». والأغنية، لمن لا يعرف، أنتجتها إدارة الشئون المعنوية لقواتنا المسلحة، منذ ثلاث سنوات، في الذكرى الـ٦٣ للثورة: ثورة ٢٣ يوليو المجيدة.