رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عاهة الأستاذ.. عندما اعترف أسامة أنور عكاشة: "أنا فاشل عاطفيًا"

أسامة أنور عكاشة
أسامة أنور عكاشة

من مفارقات القدر أن فترة الستينيات التى شهدت قصة حبه فى الجامعة هى ذاتها الفترة التى كان يطلق عليها «عصر الرومانسية». هذه الفترة كانت بالفعل فترة صعود الأحلام، حتى الشوارع وقتها كانت ممتلئة بالزهور والخضرة والأشجار، وكأنها انعكاس لـ«خضار» قلوب ساكنيها وقاطنيها، لدرجة أن هناك شوارع بعينها كانت موجودة خصيصًا للعشاق، مثل شارع «الجبلاية» الذى كان يسير فيه الأحبة «اتنين اتنين»، وحديقة الأسماك التى كان أسامة أنور عكاشة يذهب إليها مع حبيبته ليكتب اسمه واسمها على أشجارها، ويختلس «قُبلة خاطفة» سريعة وسط الظلام فى «جبلاية حديقة الأسماك».
لكن الشىء المثير للدهشة، الذى أثار انتباهى أنا شخصيًا واستوقفنى فى مسيرة هذا الكاتب الدرامى العظيم- أثناء تأملى أعماله الدرامية- هو قصص الحب الفاشلة فى معظم- إن لم يكن فى كل- أعماله الدرامية!.
على سبيل المثال لا الحصر، قصة الحب الفاشلة بين خالد زكى والفنانة المعتزلة نسرين فى المسلسل الذى كتبه أسامة أنور عكاشة باسم «الشهد والدموع»، وقصة الحب الفاشلة بين الفنان المعتزل محمد العربى والفنانة نسرين فى مسلسل «رحلة أبوالعلا البشرى»، وقصة الحب الفاشلة بين آثار الحكيم وممدوح عبدالعليم فى مسلسل «الحب.. وأشياء أخرى»، وقصة الحب الفاشلة بين آثار الحكيم «زهرة» وممدوح عبدالعليم «على البدرى» فى مسلسل «ليالى الحلمية»، وقصة الحب الفاشلة بين صفية العمرى «نازك السلحدار» ويحيى الفخرانى «سليم البدرى» فى «ليالى الحلمية»، وقصة الحب الفاشلة- أيضًا- بين لوسى وصلاح السعدنى فى مسلسل «أرابيسك»، وهذا يؤكد- من وجهة نظرى- بما لا يدع مجالًا للشك أن أسامة أنور عكاشة كان قد عاش بالفعل قصة حب حقيقية عنيفة فاشلة، أعطى فيها كل الحب والإخلاص والصدق، وقوبل كل هذا من الطرف الآخر بالغدر والزيف والكذب والاستهتار.
كل هذه الحقائق أخذتُ أعلنها صراحة أمام أسامة أنور عكاشة بينما كان هو ينصت إلىّ والدموع تترقرق فى عينيه، حتى إنه نكّس رأسه على الأرض، فى محاولة منه لإخفاء دموعه التى كانت قد انسالت أمامى على خديّه!.
ولا أعلم لماذا ذكرتنى دموعه التى ترقرقت أمامى فى عينيه بطفولته الحزينة، حيث أصيب وقتها بـ«عاهة عاطفية» وقت أن ماتت أمه وهو طفل صغير لم يكن عمره وقتها تخطى السنوات الست، وهذا بالفعل ما جعل لديه فى أعماق قلبه وروحه وعقله مخزونًا من الشجن والحزن والرومانسية والأحلام المقهورة المحبطة، علمًا بأننى أقول هذا لأن علاقة الطفل بأمه هى- فى حقيقة الأمر- علاقة ارتباط وجدانى فى المقام الأول، بينما الطفل أسامة، منذ أن قال يا هادى، وتفتحت عيناه على الدنيا، أصيب- للأسف- فى عواطفه ووجدانه!.
وقد لا يعلم البعض أن الإصابة فى العواطف والوجدان من الصعب- إن لم يكن من المستحيل- أن تندمل مع مرور الوقت، مثلما أن المتاعب الحياتية والاقتصادية والمادية التى كان أسامة قد تعرض لها بقسوة فى شبابه سنوات طويلة، كانت قد أصابته- هى الأخرى- بالحرمان العاطفى أو أخذت من رصيده العاطفى، أو كانت على حساب عواطفه وسلامة قلبه وراحته ومشاعره، ليس لشىء سوى أن أسامة أنور عكاشة كان قد عاش بالفعل قصة حب كبيرة جدًا وفاشلة ومحبطة جدًا بالجامعة، حيث إن ظروفه الحياتية والنفسية والمادية- وقتها- لم تكن تسمح له أبدًا بأى ارتباط.
كل هذه الأحداث الحياتية جعلته بالفعل إنسانًا «ينهنه» عاطفيًا- من جواه- إن جاز هذا التعبير!.
ومن مفارقات القدر أن فترة الستينيات التى شهدت قصة حبه فى الجامعة، هى ذاتها الفترة التى كان يطلق عليها فترة الزمن الجميل لعصر الرقى والثقافة والخلق والرومانسية، هذه الفترة تحديدًا- كما قلت سابقًا- كانت فترة صعود الأحلام للشعب المصرى كله، علمًا بأن أسامة أنور عكاشة ذاته كان يرى فى هذه الفترة الزمنية تحديدًا جماهير سينما «مترو» وهى تبكى عقب مشاهدتها فيلم «بين الأطلال»، فالجميع كانوا قد خرجوا بالمناديل وعيونهم حمراء من كثرة الدموع! حتى إن بعض هذه الجماهير كان قد حفظ عن ظهر قلب ما ردده بطل الفيلم فى النهاية، وهو يرثى حبيبته، حيث قال: «أنتِ أيتها الشمس الغاربة، فلتشهدى على أن حبى لها خالد مثل الخلود وأنتِ تغربين، بينما حبى لم ولن يغرب أبدًا».
كل ما أريد قوله إن قصة حب أسامة مع زميلته فى الجامعة كانت فى ظل هذه الفترة المتوهجة المزدهرة المفعمة بالرومانسية، وعلى الرغم من أن قصة حبه الفاشلة كانت قد استهلكته بالفعل عاطفيًا وعصبيًا، بل تسببت فى أن تصبح انفعالاته وردود أفعاله أكبر من الفعل ذاته، إلا أنها تسببت- فى الوقت ذاته أيضًا- فى أن تمتلئ أعماله الدرامية بالمشاعر والشجن والحزن النبيل، ليس لشىء سوى أننى أرى أن المخزون الوجدانى للفنان- على وجه الخصوص- وللإنسان العادى- على وجه العموم- هو فى حقيقية الأمر بمثابة التاريخ السرى للإنسان، ولأن كلمة «سرى» قد توحى للبعض بأشياء مضللة، فدعونى أقول إن التاريخ الوجدانى والعاطفى للإنسان هو فى حقيقة الأمر صحيفة سوابقه العاطفية- إن جاز هذا التعبير- هى نار الإنسان العاطفية التى اكتوى فيها فترات طويلة، لتصبح مع مرور الأيام والزمن وقودًا يدفع الإنسان دومًا للعمل والإبداع بل التفوق على أقرانه- كل أقرانه- هى الأحداث التى تجعله- فى النهاية- الإنسان الذى أصبح «هو» عليه، سواء كاتبًا مبدعًا حزينًا مثل الغائب الحاضر أسامة أنور عكاشة، أو مطربًا ساحرًا مفعمًا بالألم والشجن والدموع أو أى شىء من هذا القبيل.