رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

التعليم والخطاب الدينى


لأن الأديان لها تلك المساحة الهائلة فى قلوب ووجدان تابعيها، ولأن كل مؤمن بآياتها وتعاليمها- ونتيحة لحالة التوتر المذهبى والدينى فى الشارع العربى والمصرى- صار يضع ‏نفسه فى مربعات الدفاع عن كل حرف وآية بتصور أن أى محاور على الطرف الآخر جاء إلى الدنيا لإزاحة دينه من الوجود، أو فى أحسن تصور أنه مكلف بتشويه دينه أو مذهبه ‏ليتوارى ويختفى ويتصاغر فى دنيا يبتغيها أن تكون لدين أو مذهب واحد فقط.‏
يسهم فى إذكاء تلك الحالة خطاب دينى بات فى حالته السلبية يؤكد أن خير وسيلة لإقصاء دين أو مذهب الآخر الهجوم المتواصل الرذيل وبيان النقائص والسلبيات فى تعاليمه من ‏وجهة نظره، وليس بسبيل الدعوة الحسنة ببيان روائع ومحاسن وإيجابيات تعاليم دينه هو الذى نراه لا يعلم الكثير من تعاليمه أو حتى طقوسه، وعليه تشتعل وتيرة النزال الخطابى ‏المتطرف عبر الكتاتيب والكتب والإعلام، ومن خلال المدارس والجامعات والنوادى والمنتديات ومنابر بيوت الله وميكروفونات الفضائيات الدينية، وعبر غيرها من الوسائط والمنافذ ‏الكثيرة أحدثها صفحات التواصل الاجتماعى.‏
وليصل الأمر بهم إلى حد تكفير الآخر والسخرية من عقائده وطقوسه بشكل ينتهى بنا إلى السؤال: كيف لمن يرون أنهم من أهل الدفاع عن الدين، أن يكون ذلك خطابهم الاستعلائى ‏القبيح المفردات والخطير والسلبى فى مضمونه؟!.. وبات أهل الفهم والرشادة يصرخون: أنزلوهم من فوق منابر جعلوها لبث الكراهية وتدمير أى خطوات نحو تأكيد بوادر حدوث ‏حالة من الالتئام والاندماج الوطنى.‏
كنت أتصور أن تعكف مراكز البحث وجهات صنع واتخاذ القرار والمؤسسات المعنية بدراسات مقارنة الأديان والحوار بين أهل الأديان والمذاهب فى بلادى، على أمر دراسة ‏البحث عن سبل ووسائل مجابهة والتصدى لأصحاب تلك المنابر والوسائط الكريهة- فضلًا عن مناشدة الجهات الرقابية والأمنية ملاحقتهم أمنيًا وقانونيًا- بالبدء بدعم وتحفيز أهل ‏الفكر المستنير لإنشاء مؤسسات لدعم الفكر التنويرى لنقدم لمجتمع الغد إصدارات صحفية وفضائيات، وعروضًا مسرحية ومعارض فنية وسينما التنوير... مناهج تعليمية ومؤسسات ‏تربوية واجتماعية ودينية لوأد الفكر الظلامى.. فلتحتشد كل القوى من أجل مجتمع مستنير.. لقد عانت كوبا من ارتفاع نسبة الأمية فى أواخر الخمسينيات، حيث وصلت إلى ٦٥٪ من ‏تعداد السكان، وعقب قيام الثورة الكوبية أجبرت الحكومة أكثر من مليون شخص من طلاب الجامعات والموظفين على العمل فى محو الأمية، وحينها أغلقت الجامعات بكوبا لمدة عام، ‏وتم توزيع الطلاب جغرافيًا على جميع أنحاء البلاد.‏
لقد تم تطبيق أساليب كوبا بشكل تجاوز حدود الجزيرة، فبحلول عام ٢٠١٠ تم تبنى الأساليب الكوبية لمحو الأمية فى ٢٨ دولة بأمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وأوروبا، والدول ‏المحيطة.. وبها تم محو أمية ملايين البشر للقراءة والكتابة.. وحصاد تلك القرارات كان رائعًا.. فهل لنا أن نسأل: ألا تحتاج مناهجنا التعليمية ومدرسونا وإدارات مدارسنا لمثل تلك ‏القرارات الناجزة؟.. لقد أضعنا ما يقرب من نصف قرن فى افتكاس تجارب إصلاح فاشلة لنظم التعليم التى بدورها كانت تسهم بشكل سلبى فى تشكيل وجدان وثقافة أجيال تم تشويه ‏مفاهيمهم عن الأديان والتاريخ والواقع السياسى والإنسانى.. إن تكلفة تعليم الملايين من طلابنا فى المدارس والجامعات فى عام واحد كافية إلى حد كبير فى تكوين بنية أساسية ‏جيدة.. ووضع أسس وتوفير إمكانيات لإقامة منظومة تعليمية جيدة، والتعامل بشكل جاد مع مشروع لمحو أمية نسبة هائلة من أهالينا بعد أن بات يستثمر حالهم أهل الشر وأصحاب ‏الخطاب الدينى المُضل والمزيف.‏
إن عقول البشر ينبغى أن تكون مطورة جدًا لكى يتم تمكينهم من المساهمة والمشاركة الإيجابية فى عالم خالٍ من الخوف، والجهل، والمرض، فالتعليم فى النهاية يُعزز البشر للعب ‏دورهم كباحثين وحراس للتقدم والسلام.. لا شك أن للخطاب الدينى تأثيرًا بالغًا فى توجيه وتشكيل فكر الناس ووجدانهم وسلوكهم فى مجتمعاتنا العربية، حيث يشكّل الدين فيها مكوّنًا ‏بارزًا من مكوّنات الهوية الفردية والجماعية. والخطاب الدينى هو شكل من أشكال الاتصال مع الناس فى ظلّ مجتمعات تُعتبر فى غالبيتها متدينة. وليس غريبًا أن يكون الحديث عن ‏الخطاب الدينى ذا أهمّية فائقة فى وقتنا الراهن.‏