رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوفاء بالعهد


الوفاء من أروع الصفات الجميلة التى يجب أن يتحلى بها المرء، فهى الإخلاص والعطاء والعهد، وبالوفاء تنال صفات المتقين وتتقرب لرب العالمين، ويحبك خلقه أجمعون. لذلك ‏القرآن الكريم يأمر بالوفاء بالعهد، ويؤكد الأمر به، ويعظم شأنه، وينهى عن الغدر.‏
يقول الله تعالى فى كتابه العزيز (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ). والوفاء بالعهد المعنى فى هذه ‏الآية، هو أن تعاهد ربك فى الدنيا على الطاعة، وعلى العمل الطيب، وعلى السير فى طريق الإيمان، والالتزام بأوامر الدين، والاستقامة على أمر الله، وعلى فعل الخيرات، وترك ‏المنكرات والتوبة.‏
ففى تفسير السعدى، فإننا نقرأ معنى الآية الكريمة «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ».‏
وهذا يشمل جميع ما عاهد العبد عليه ربه من العبادات والنذور والأيمان التى عقدها إذا كان الوفاء بها برًا، ويشمل أيضًا ما تعاقد عليه هو وغيره كالعهود بين المتعاقدين، ‏وكالوعد الذى يعده العبد لغيره ويؤكده على نفسه، فعليه فى جميع ذلك الوفاء وتتميمها مع القدرة، ولهذا نهى الله عن نقضها فقال: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} بعقدها على اسم ‏الله تعالى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ} أيها المتعاقدون {كَفِيلًا} فلا يحل لكم ألا تحكموا ما جعلتم الله عليكم كفيلًا، فيكون ذلك ترك تعظيم الله واستهانة به، وقد رضى الآخر منك باليمين ‏والتوكيد الذى جعلت الله فيه كفيلًا. فكما ائتمنك وأحسن ظنه فيك، فلتفِ له بما قلته وأكدته. {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} يجازى كل عامل بعمله، على حسب نيته ومقصده.‏
أما فى تفسير الطبرى، فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ».‏
يقول تعالى ذكره: وأوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه، وعقده إذا عاقدتموه، فأوجبتم به على أنفسكم حقًا لمن عاقدتموه به وواثقتموه عليه (وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) يقول: ولا ‏تخالفوا الأمر الذى تعاقدتم فيه الأيمان، يعنى بعد ما شددتم الأيمان على أنفسكم، فتحنثون فى أيمانكم وتكذبون فيها وتنقضونها بعد إبرامها، يقال منه: وكَّد فلان يمينه يوكدها توكيدًا: ‏إذا شددها وهى لغة أهل الحجاز، وأما أهل نجد، فإنهم يقولون: أكدتها أؤكدها تأكيدًا. وقوله (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) يقول: وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم ‏راعيًا يرعى الموفى منكم بعهد الله الذى عاهد على الوفاء به والناقض.‏
ويقول العلماء: «الإنسان أحيانًا فى وقت الشدة والضيق، يتوجه إلى الله عز وجل، ويقول له: يا رب، أعاهدك على الطاعة، أعاهدك ألا أعصيك، ثم الله عز وجل بكرمِه، ولطفه، ‏ورحمته، وحكمته، يرفع هذه الشدة؛ فإذا رفع عنك الشدة إياك أن تنقض عهد الله عز وجل، إن ساق الله لك شدة، وكبرت عليك، وطلبت من الله عز وجل أن تستقيم على أمره على أن ‏يرفعها عنك، ورفعها، إياك أن تنقض عهد الله عز وجل، إنك إذا فعلت ذلك كالمستهزئ بربه».‏
ومن القصص الجميلة عن الوفاء بالعهد: «شابان فى عهد عمر، رَضِى اللَّه عَنْه، دخلا عليه وهما يسوقان رجلًا قتل أباهما، فعقد هذا الخليفة العظيم مجلسًا للحكم فى هذه الجريمة، ‏عقد مجلسًا لمحاكمته، وبعد سماع أقوال الشهود، وإقرار القاتل، حكم عليه بأن يقتل. ‏
فسيدنا عمر رَضِى اللَّه عَنْه حكم على هذا القاتل، بعد أن اعترف وأقر، والقصة طويلة، بأن يقتل، لكن المحكوم عليه بالقتل طلب مهلة ثلاثة أيام، كى يذهب إلى أهله، ليعطيهم مالًا ‏كان قد خبأه لهم، وليودع أولاده، وليكتب وصيته، فقال له عمر: ومن يضمنك؟ نظر إلى من حوله، بقى الجميع ساكتين، لا أحد يعرفه، ليس من المدينة، فلم يتكلم أحد، لأنه لا أحد ‏يعرفه، فما كان من أبى ذر، رَضِى اللَّه عَنْه، إلا أن قال: أنا أكفله يا أمير المؤمنين، والكفيل قد ينفذ فيه حكم القتل، ومضت الأيام الثلاثة، وحضر الشابان ليشهدا مقتل قاتل أبيهما، ‏لكن الرجل لم يحضر، إلى أن كادت الشمس تغيب، ثم غابت، وكاد سيدنا عمر ينفذ حكم القتل فى أبى ذر، لأنه الكفيل، ثم لاح بالأفق شبح بعيد، انتظروا، فإذا الرجل الذى عاهد الله ‏أن يعود ليقتل، وها هو ذا قد عاد، قبيل تنفيذ حكم الإعدام، سأله عمر: يا هذا، لِمَ وفيت بوعدك وأنت تعلم أنه القتل؟ فقال هذا الرجل: إنما جئت ووفيت بوعدى لئلا يقال: إن الوفاء ‏قد مات.‏
عندئذ التفت سيدنا عمر إلى أبى ذر، رَضِى اللَّه عَنْه، وقال: يا أبا ذر لِمَ ضمنته، وأنت لا تعرفه؟ فقال سيدنا أبوذر: إنما ضمنته وأنا لا أعرفه لئلا يقال: إن المروءة ماتت، وعندئذ ‏قال الشابان: ونحن عفونا عنه، فقال عمر رَضِى اللَّه عَنْه: لمَ عفوتما عنه؟ فقالا: لئلا يقال إن السماحة ماتت.‏
وفاء، ومروءة، وسماحة؛ وفاء بالذى ذهب، وعاد ليقتل، ومروءة بهذا الصحابى الجليل الذى ضمنه، وسماحة من هذين الشابين، لأنهما ما أرادا أن يكون الرجلان أكثر سماحة ‏ووفاء ومروءة منهما».‏