رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"شطحات أنيس منصور".. رامبو أشهر شعراء فرنسا مسلم واسمه عبدربه

أنيس منصور
أنيس منصور

فرنسا هى حديث الدنيا فى هذه الأيام، بعدما نجح فريقها القومى فى أن ينتزع المونديال ويتربع على عرش كرة القدم فى العالم، فلا صوت الآن يعلو فوق صوت «الديوك»، ولا توجد مدينة أكثر زهوا من باريس، ولا يوجد مستفيد أعظم من الثقافة الفرنسية التى عادت إلى الواجهة بكل ثقلها وتأثيرها ونفوذها وتاريخها وسطوتها على العالم.

من يقدر على فرنسا فى الكرة، وفى الموضة، وفى السياحة، وفى الأدب والثقافة والفنون الرفيعة وفى سحر الحضارة؟
وفى الليلة نفسها التى كانت باريس تسهر حتى الصباح منتشية بهذا الفوز التاريخى، كنت أسهر أنا الآخر مع وثيقة تخص واحدا من أشهر الشعراء الفرنسيين، قرر فيها كاتبنا الكبير أنيس منصور أنه أشهر إسلامه وسمى نفسه «عبد ربه».
«رامبو» هو فخر الشعر الفرنسى وواحد من الأسماء اللامعة فى القوة الناعمة التى صدرتها فرنسا للعالم، وصنعت منها أساطير مبهرة من موليير إلى سارتر، ومن سارة برنار إلى كاترين دينيف، ومن إديث بياف إلى شارل أزانفور، ومن بلاتينى إلى زيزو.. إلى الاختراع الجديد أنطوان جريزمان.
لا يوجد شاعر فرنسى ملأ الدنيا وشغل الناس كما فعل آرثر رامبو «٢٠ أكتوبر ١٨٥٤- ١٠ نوفمبر ١٨٩١»، وتصل الدهشة إلى منتهاها إذا عرفنا أن كل إنجازه الشعرى لا يزيد على مائة صفحة بخط اليد، كتبها خلال أعوام ستة فقط وهو فى سنوات مراهقته بين السادسة عشرة والحادية والعشرين، ثم توقف بعدها عن كتابة الشعر تماما ومات وهو فى السابعة والثلاثين من عمره، وبعد تجربة حياة عاصفة عاشها مغامرا وسكيرا وبوهيميا ورحالًا وباحثًا عن الحرية المستحيلة. إنه «الشاعر الرجيم»، كما وصفه صديقه الشاعر الفرنسى الكبير بول فيرلين، و«سارق النار»، كما سماه بابلوا نيرودا، و«وحش من النقاء» كما رآه جاك ريفيير، ويمكنك أن تقف على عشرات الأوصاف والألقاب التى تطارد هذا المراهق العبقرى الذى قاد الانقلاب الكبير فى الشعر الفرنسى ويعده النقاد واحدا من الآباء الأربعة للحركة السريالية فى الأدب ومازال رغم رحيله البعيد يمثل اللغز الأكبر فى الشعر الفرنسى.
فى مئوية ميلاد رامبو، أى فى العام ١٩٥٤، كتب أنيس منصور دراسة نشرها فى العدد التاسع بتاريخ أول ديسمبر ١٩٥٤ من مجلة «الرسالة الجديدة»، التى كان يوسف السباعى قد أصدرها لتحل محل مجلة «الرسالة» الأم بعد توقفها، لكن الرسالة الجديدة رغم ما توافر لها من إمكانيات ودعم وحشد لكل نجوم الكتابة الجدد بعد ثورة يوليو لم تحظ بما نالته «رسالة» أحمد حسن الزيات من تأثير ومكانة فى الحياة الثقافية المصرية، ولم تصمد «رسالة السباعى» طويلا فتوقفت عام ١٩٥٨. على أى حال فإن ما كتبه أنيس منصور عن شاعر فرنسا الأشهر كان مثيرا، وهو ما يتجلى من عنوان الدراسة نفسها «الذكرى المئوية للشاعر الفرنسى رامبو.. أو عبدربه.. تاجر اللبان الذى اعتنق الإسلام فى الحبشة»، ورغم ما توصل إليه أنيس منصور من اكتشافات جديدة عن حياة رامبو تدغدغ مشاعر وعواطف القارئ العربى، إلا أن الأستاذ أنيس لم ينشر تلك الدراسة فى كتبه التى ضربت رقما قياسيا فى عددها يستحق صاحبها دخول موسوعة جينيس.


الكاتب الكبير: «سارق النار» تعلم اللغة العربية.. وكان يحمل بطاقة جلدية مكتوبًا عليها «لا إله إلا الله»
فى الجزء الأول من الدراسة يستعرض أنيس بأسلوبه كامل الرشاقة سيرة حياة رامبو منذ مولده فى إحدى ضواحى مارسيليا لأب يعمل ضابطا فى الجيش الفرنسى، شارك فى حرب الجزائر وأقام فيها سنوات وتأثر بالثقافة العربية، وحاول ترجمة القرآن الكريم، واختفى الأب من حياة رامبو الصغير وعمره ست سنوات، هرب الأب من نكد أم رامبو وتسلطها، فذاق رامبو الصغير إحساس اليتم وكانت أولى قصائده وهو تلميذ بالمدرسة «هدايا الأيتام فى العام الجديد».
يحكى أنيس عن نبوغ رامبو اللافت منذ أن كان طفلا فصبيا، وروح التمرد التى ولدت معه وراحت تكبر كل يوم، فجعلته يتمرد على قيود أمه وسيطرتها عليه، فيقرر الهرب منها إلى باريس، ويرسل رسالة إلى فيرلين، الشاعر الشهير، يرفق معها بعض قصائده ويطلب منه مساعدته فى السفر إلى باريس،. ويحس فيرلين من القصائد أنه أمام موهبة عظيمة فيرسل إليه تذاكر القطار، بل ويستضيفه فى بيته، وينطلقان معا فى حياة بوهيمية كاملة، كانت هى السنوات المتفجرة بالإبداع فى مسيرة رامبو القصيرة، فكتب خلالها أغلب أشعاره الخالدة، كان رامبو خلالها لا يفيق من «السُكر».. سُكر الخمر والشعر.
وجد رامبو فى تلك السنوات الست الحرية المستحيلة فعاشها بكل كيانه، وترك لنفسه العنان، يحيا بنزق ويتصرف بلا حساب، حتى إنه لم يتورع فى أن يعبر عن امتعاضه من قصيدة رديئة سمعها فى صالون أدبى فأمسك بالقصيدة و«بال» عليها أمام الجميع ثم انصرف.
لكن هذه الحياة الصاخبة انتهت بمأساة، كانت العلاقة بين رامبو وصديقه وراعيه فيرلين قد توطدت إلى حد أشيع معه عن علاقة مثلية بين الشاعرين، وأحس فيرلين بأن رامبو بدأ يتمرد عليه ويهرب منه فدخلا فى مشاحنات انتهت بأن أطلق عليه فيرلين الرصاص من مسدسه فأصابت واحدة منها ذراع رامبو.. دخل بسببها فيرلين السجن وخرج رامبو من جنة الشعر.
حتى تلك النقطة يسرد أنيس منصور حياة رامبو برقة ودقة وعذوبة وأسلوب ممتع لا يترك لك فرصة لالتقاط الأنفاس، يكتب بجرأة عن جنونه وعربدته بل وإلحاده: «لقد أودع ثورته الشعرية فى دواوين ثلاثة هى: «اللمحات، رحلة الجحيم، الزورق المخمور».. ورحلة الجحيم هى أعظم وأعمق ما كتبه رامبو، فقد تناول فيها: الله والخطيئة والإنسان، وراح ينتقل بين الله والإنسان ويجعل الخطيئة قسمة بينهما.. حتى تحار بينهما ولا تدرى أيهما الإنسان. وكانت حياته صلوات فى عالم الخيال برغم أنه كان كافرا.. لقد كان يعيش فى عالم كله صمت وكله ضباب وكله ظلام.
وفى الجزء الثانى من الدراسة، التى يحكى فيها أنيس منصور عن شاعر فرنسا الشهير بعد أن غادره الشعر، وقرر هو أن يغادر فرنسا فى مغامرات مدهشة طاف فيها دولا وقارات، فإننا نجد أنفسنا أمام «شطحات» أكثر إدهاشا من مغامرات رامبو.. وللدقة فإننا نورد أجزاء مما كتبه أنيس منصور وما توصل إليه من أسرار لم يسبقه إليها أحد فى العالم. يكتب: «لقد مات الشاعر فى نفسه، ودخل صديقه السجن ففيم البقاء، لابد من الهرب مرة أخرى.. إن الأمومة معناها القيود والصداقة معناها الرصاص والحياة معناها التشرد.. لقد هرب من أمه بالخمر وهرب من الخمر بالطلاسم، ولكن لابد أن يجرب هربا جديدا من كل أم ومن كل خمر ومن كل سحر «إننى أريد أن أدخن كما كان أجدادنا يفعلون حول نار متخاذلة، تحت سماوات حارة»، فانطلق إلى إفريقيا.. إلى الحبشة، أطلق جلده للشمس، وأطلق لحيته للهواء، وألقى بقلمه فى البحر واشتغل بالتجارة، بتجارة الجلود ثم بتجارة البن، ثم بدأ يتعلم اللغة العربية وأطلق على نفسه اسم «عبدربه» وكان يحمل بطاقة جلدية كتب عليها «لا إله إلا الله.. عبدربه نقال لبان»، لقد كان يبيع اللبان، وعندما عرضت هذه البطاقة الجلدية فى الشهر الماضى على المستشرق الفرنسى «لوى ماسينيون» والعالم الأثرى «جاستون فيت» أكد الرجلان أن شاعرنا قد تعلم العربية وأنه أسلم، وأنه قد ترك كل شىء يربطه بالقارة الأوروبية، ترك لغته ودينه.. وترك فنه.. وترك أمه وصديقه.. ترك ماضيه كله، وولد على أرض سمراء وفى جماعات زنجية وفى غابات وحشية.. وجعل يركب الحمير ويرفع يده بالسلام، ويقسم بالله العظيم حانثا كما يفعل أهل الحبشة.
وكانت أخته إيزابيلا تبعث له بين الحين والحين خطابات مطولة وبعض الكتب الأدبية، وكان يرد على خطاباتها بقدر ما تتسع له تجارة اللبان والبن، وفوجئ الشاعر بأن صديقه «فيرلين» خرج من السجن وأنه نشر له مجموعة من قصائده، إذن فهنالك من يذكر رامبو، ومن يعترف به شاعرا عظيما وأبا شرعيا للشعر السريالى والفن السريالى الأوروبى، لقد كان يؤمن بأن الناس نسوه، وأنهم على يقين من أنه مات، أو كان يجب أن يموت، أما الشاعر فيرلين فقد بقى ينظم الشعر ووقف على أبواب الأكاديمية ورفضت أن تجعله عضوا فيها ليقف بين الخالدين، لكنها رفضته كما رفضت موليير من قبل، فأصبح من الخالدين الذين لم يدخلوها.. ولكنه سُمى بعد ذلك أمير شعراء فرنسا.
لقد تعب رامبو من الوحدة، والوحدة عنده هى الجحيم الذى استمد معانيه من القرآن ومن الحكمة الشرقية، فسافر إلى فرنسا، ولما بلغ مارسيليا أحس بآلام حادة فى رجليه، وأن هذه الآلام كانت تنتقل فى جسمه كله، ثم استقرت فى رجل واحدة وذهبت بها، إنها الأثر الذى تركته بنات الحبشة فى جسمه.. إنه أثر خبيث، لقد أماتت فرنسا روح الشاعر، وأجهزت الحبشة على جسد التاجر، فمات عن ٣٧ عامًا وكان يقول باللغة العربية: «الله كريم.. إننى ككل مسلم أتوكل على الله».
مات فى السابعة والثلاثين، ولكن الشاعر قد مات فى العشرين، كالشعراء الخالدين الذين سبقوه ولم يتجاوزوا الثلاثين أبدا.. إنه كالشاعر الفرنسى «لوثر يوميون» الذى مات فى الرابعة والعشرين، والشاعر الإنجليزى «كيتس» الذى لم يتجاوز السادسة والعشرين، والشاعر الروسى «لرمنتوف» الذى لم يزد على السابعة والعشرين، والشاعر الألمانى «توفالس» مات فى التاسعة والعشرين، والشاعر الفرنسى «د يجران» مات فى التاسعة والعشرين أيضًا.. وكان أطولهم عمرا الشاعر الإنجليزى شيللى فقد بلغ الثلاثين.
لقد كانت حياة رامبو كلها هروبا من أمه ومن لغة أمه ودين أمه، هرب من أى قيد: قيد الدين أو التقاليد أو القوانين أو الواقع، فكان ملحدا وكان فاجرا وكان حالما.. وكانت هذه حاله.. وكان شاعرا عظيما على أى حال.
هذا ما كتبه أنيس منصور نصا فى دراسته المجهولة عن رامبو، ويقول فيه بلا مواربة ولا دليل إنه أسلم وتعلم العربية وسمى نفسه عبدربه.
فهل أسلم رامبو حقا؟.. ولو كان قد فعلها فلماذا غاب ذلك عن التيارات السلفية وباحثيها فلم يحتفلوا بتلك المعلومة ويحولوا هذا الفرنسى الشهير إلى ولى من أولياء الله الصالحين؟.

شريف الشوباشى يرد: قرأ القرآن مترجمًا بمنطق المعرفة.. وتغيير اسمه معلومة غير دقيقة
حملت أسئلتى وحيرتى إلى كاتب كبير يعد بحق خبيرا فى الثقافة الفرنسية ومن العارفين بأدبها ومبدعيها، عاش فى باريس ٢١ عامًا متصلة ويعرفها بـ«الشبر»، وقرأ رامبو وسيرته ويحسب نفسه من عشاق شعره، وفوق كل ذلك كان صديقا مقربا من أنيس منصور.. أتحدث عن الكاتب شريف الشوباشى، الذى أدهشه ما توصل إليه صديقه القديم فى تلك الدراسة التى يبلغ عمرها الآن ٦٤ سنة، وكانت لديه ردود موضوعية على ما جاء فيها، ويمكن تلخيص الردود فى نقاط:
■ حكاية إشهار رامبو إسلامه هى مسألة لم تثبت ولا دليل عليها، بل هناك أدلة تنفيها بينها مثلا أن رامبو دُفن فى مقابر المسيحيين فى مسقط رأسه بمارسيليا وطبقا للطقوس المسيحية.. الثابت أنه قرأ القرآن مترجمًا إلى الفرنسية وكان شغوفا بدراسته ليعينه على فهم تلك البيئة الجديدة التى جاء إليها ويحتل فيها الدين منزلة عظيمة.. وربما أعجبه الجانب الصوفى فى الإسلام، وكانت نزعة قديمة عنده رغم أنه كان ملحدا فى صباه وشبابه.. أما أن يصل الأمر إلى اعتناق الإسلام فهذه شطحة لا دليل عليها، مثلها مثل حكاية إسلام نابليون بونابرت، فالأمر لم يكن سوى تمثيلية من نابليون قصد بها أن يتقرب للمصريين ويلبسهم العمة كما نقول، وكبار قادته وبالذات كليبر كانت لديهم اعتراضات حادة على تظاهره بالإسلام، مع أن نابليون كان يستخدمه كسلاح للخداع والسيطرة على المصريين.. وحتى الجنرال مينو الذى أشهر إسلامه رسميا ليتزوج من زبيدة المصرية المسلمة فإنه بمجرد رجوعه لفرنسا عاد للمسيحية بل يورد رفاعة الطهطاوى ما يفيد بأن زوجته زبيدة تنصرت عندما سافرت معه إلى فرنسا.. وفى أمر رامبو فإن حكاية إسلامه تبقى مجرد شطحة لا دليل عليها ولا إثبات.
■ وأما أنه سمى نفسه «عبدربه» فالمعلومة غير دقيقة، فهو لم يسم نفسه بل كان اليمنيون والأحباش يدللونه بهذا الاسم السهل.. وقد عاش بينهم رامبو سنوات وحاول التقرب منهم، وبحسابات التاجر الذى قرر أن يكونه قرر أن يقرأ القرآن ويتعلم كلمات من العربية ليستطيع أن يتفاعل مع هؤلاء البشر الذين كتب عليه أن يتعامل معهم.
■ وأما حكاية أنه تاجر فى اللبان فهذه معلومة غريبة علىّ.. ما أعرفه أنه تاجر فى أشياء كثيرة منها السلاح ومنها تجارة العبيد ومنها البن ولكن ليس من بينها اللبان.. وبالمناسبة فإن رامبو زار مصر ونزل بالإسكندرية وبورسعيد.. لكنها كانت زيارات عابرة.
■ تفسيرى لما ورد فى دراسة الأستاذ أنيس أنه رغم الإجماع على أنه قارئ ممتاز، إلا أن خياله كان يسيطر عليه أحيانا فيضيف ويجود من عنده.. وكانت تجمعنى به صداقة قوية وفى السنوات الطويلة التى عملت فيها مديرا لمكتب الأهرام فى باريس كان يزورنى كثيرا كلما جاء إلى العاصمة الفرنسية، زيارات يومية طوال فترة وجوده، وكان يظل فى مكتبى بمتوسط خمس ساعات يوميا.. ومرة طلب منى أن أرافقه لزيارة قصر يخص الأميرة ديانا فى غابة بولونيا، فلما وصلنا إلى الغابة كان هناك كردون أمنى يمنع وصولنا للقصر بسبب إقامة سباق رياضى، ولما يئسنا من الوصول للقصر رجعنا، لكن بعد ثلاثة أسابيع وبعد رجوعه للقاهرة كتب الأستاذ أنيس عن زيارته للقصر بصحبتى وقدم وصفا دقيقا جدا للقصر وكأنه زاره بالفعل.
■ السنوات الأخيرة من حياة رامبو مازالت غامضة، فقد تنقل بين دول كثيرة، من إيطاليا إلى سويسرا إلى عدن باليمن والحبشة.. فقد نسى الشعر بل كان يقول: عندما أقرأ شعرى الآن أحس أننى أريد أن أتقيأ، وتحول إلى تاجر وعاش ١٧ عاما بتلك الصفة الجديدة إلى أن داهمه المرض فعاد إلى بلده ومات فيها.. لكن شعره مازال خالدا.. حتى ولو سمى نفسه «عبدربه».