رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكاتب الأيرلندى جيمس جويس

جريدة الدستور

السيدة تنتظره فى قاعة الجلوس، فوقف يرتدى الصدار والسترة وهو أشد الناس حيرة، فلما أتم لبسه عمد إليها يروّح عنها ويهون عليها ويقول: «لا بأس عليك وستنتهى الأمور على خير حال»، ثم غادرها وهى جالسة على الفراش تبكى وتغمغم فى أنين خفيض: «يا رب»!.

وأخذ ينحط عن الدرج وهو يجلو منظاره الذى غشته الرطوبة، ويتمنى لو أنه طار من خلال السقف إلى بلاد نائية لا يصادف بها أثرًا لهذا العنت والوبال، على حين كان ينساق على الدرج تدفعه قوة قاهرة لهبوطه، وكأنه يرى وجه رئيسه ووجه السيدة وهما يحملقان إليه بعين النقمة والحقد، ويشاهدان مذلته وارتباكه.

والتقى فى آخر الدرج «جاك مونى» وقد خرج من مخزن النزل يحمل زجاجتين من الجعة وهو يحنو عليهما حنو الأم على وليدها، فتبادلا التحية فى جفاء، ووقعت عين العاشق لحظة على وجهه الضخم الذى يشبه وجه الكلب وذراعيه القصيرتين الغليظتين. ولما بلغ أول الدرج رفع عينيه إلى أعلى فرأى «جاك» يرمقه من باب غرفته، وتذكر بغتة كيف أن أحد الموسيقيين، وهو شاب أشقر صغير الجرم من أهل لندن، أخذ يعرض تعريضًا صريحًا بأخته بوللى، فكاد يتفرق شمل الجماعة من ثورة جاك وعنف غضبه، وحاول كل منهم أن يهدئ من ثائرته، وقد ازداد الموسيقى شحوبًا على شحوبه وهو يبتسم ويقول إنه لم يقصد الإساءة مطلقًا، غير أن جاك ظل يهدر ويصيح به قائلًا إنه سيفتك فتكًا ذريعًا بكل من تسول له نفسه التعريض بأخته ويشق غلصمته وإنه على ذلك لقدير.

وتريثت بوللى وهى جالسة على جانب الفراش تذرف دمعًا، ثم قامت فمسحت دمعها وخطت إلى المرآة وغمست طرف المنشفة فى إبريق الماء فانتعشت عيناها من ذبول البكاء بعد مسحهما بالماء البارد، وفحصت صورتها الجانبية فوثقت من وضع مشبك الشعر فوق أذنها، ثم عادت إلى الفراش، فجلست عند موضع الأقدام منه، وأطالت النظر إلى الوسائد «وقد أثارت بها ذكرى خفية أنيسة إلى نفسها»، وأسندت صفحة عنقها إلى شباك السرير الحديدى البارد واستغرقتها الأفكار، ولم يعد يبدو عليها وجوم ولا انزعاج، وراحت تنتظر فى أناة وصبر وفى غير توجس ولا خوف والفرحة تكاد تتملكها، وقد أملست ذكريات الماضى وتنحى تفكرها فى حوادثه، وأخذت تخامرها آمال المستقبل وأحلامه متزاحمة متشابكة حتى لم تعد ترى الوسائد البيضاء التى تعلقت بها عيناها ونسيت أنها تنتظر أمرًا..

وسمعت أخيرًا نداء أمها وهى تهتف بها، فوثبت واقفة وعدت إلى حاجز الدرج.
- بوللى.. بوللى..
- ماما.. هآنذا.
- انزلى يا عزيزتى، فإن السيد دوران يريد أن يتحدث إليك.
وعند ذلك تذكرت بوللى ما كانت فى انتظاره.
من قصة «النُزُل»