رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سحابة حب أمطرت فراقًا!

جريدة الدستور

إنها الحادية عشرة مساءً.. وأخيرًا قرر أن يتخلص من ذاك الصخب المحيط به فى الخارج، يدخل غرفته متمشيًا على مهل ويده تتخلل جيب بنطاله، ثم يقترب من النافذة ويزيل عنها ذاك الستار القاتم، يقف بجوارها محاولًا أن يُشعل لفافة من التبغ ينفث من خلالها بقايا ضيق يحتال عليه ثم يلفظ منها دخانًا يحمل ما تبقى بداخله من بركان غضب.. بركان ظن أنه قد خمد مع أول ابتسامة منها وأول لقاء بها بعد فراق قد دام لسنوات، ولكن الحقيقة أنها ما كانت سوى بداية النهاية.

والآن فهو يعلم أنها تحاول أن تتبع آثاره.. تسأل عنه القريب والغريب.. لا يعلم لماذا!، ولكن كل ما يعلمه أن رؤيتها قديمًا كانت كفيلة كى تذيب جبالًا من الجليد بداخله، أما الآن فأصبحت رؤيتها مرتبطة بمزيد من التساؤلات.. ولكن ما زالت تلك اللمعة فى عينيها عندما تراه.. ومن عينيها يُسكت تلك الأصوات العالية بعقله والتى باتت تسبب له صممًا عن أصواتِ أخرى تستجدى حبه، تُراها ما زالت تفكر بى؟ ولكن كيف يُعقل هذا؟!.

حاول مؤخرًا أن يمنحها أمانًا أكثر عساه يعلم آخر هذه الطريق الوعرة التى تسلكها معه، يقنعها بأنها ما زالت قيد قلبه ربما كى يعرف منتهاها، وما إن يخلو بذاته يعلو بداخله ذاك الضجيج الآثم.. هامسًا بينه وبين ذاته، نعم إنها خائنة لا تستحق حبًا منى، تركتنى فى أوج حبى لها، تُرى هل تغار علىّ حقًا؟! ولكن لمَ بصيصُ من الغضب يصرخ فجأة فى عينيها حين ترانى مع أخريات؟! وفجأة يلفظ دخان سيجارته فى شىء من التعالى ويذم على شفتيه غبيةُ أنتِ، ثم يهوى به الحنين إليها فيشعر بالاشتياق ولكن يأبى كبرياء رجولته أن يعترف بها وبحبها من جديد مرددًا: «فلتذهبين أنتِ وحبك إلى الجحيم»، ويعود لضجيج عقله ثانية، محاولًا أن يجد إجابة عن ذاك السؤال الثائر بداخله، لماذا تسعى خلفى، وأنا لم أملِ على مسامعها يومًا وعدًا بأنى لها؟! بل لماذا تُصر على أن تُشعل فتيل حبِ قد انطفأت جذوته منذ أمد؟!».

ومع علمه أنها تراقبه فى صمتِ مترف منها، تراه تارةً ينتقى كلماتِ تقنعها بالحب من جديد، وتارة يرجُمها بكلماتِ من حجارة، كلماتِ مدوية باللا مبالاة وتلك التى تحمل بين طياتها معانى تحطم ما تبقى من كبرياء أنوثتها، لسان حاله ينطق بأنها لم تتغير بعد فهى أنثى تأبى أن تصدق كلماتِ تبدو زائفة لها، يعلم أنها باتت تقنع بعيناه أكثر من أى شىء، فمثلما كانت تقول له ذات مرة «عيناكَ كـ المرآة أرى بهما ما لا تستطيع أن تمليه أنت على مسامعى، ولو كان وزن الأرض كلمات» فابتسم ابتسامة ساخرة من حديثها قديمًا.

أخذ يستلقى على فراشه يقلّب فى هاتفه، ولكنه سرعان ما ألقاه بجانبه فى شىء من الملل، يأخذه التفكير بها من جديد، فيتذكر تلك الكلمات التى علقت بذهنه فكانت بمثابة ماء بارد أثلج قلبه الملتهب فور رحيلها عنه، يتذكر صديقه الذى أخبره حينها «إذا كنت يومًا بمكانك وعلمت أنها تبحث عنى، بل وتراقبنى مليًا لأسقيتها من العذاب كأسًا تلو الأخرى»، ثم يضحك بسخرية على جملته حينذاك، ولكنه حقًا بات مؤخرًا يستمع للنصيحة مليًا، بل ويتحين الفرص والمناسبات التى يعلم بوجودها ويبدع فى اتباع حيل الرجال اللعينة لإثارة غيرتها تارة أو للفتك بما تبقى من رصيد حبَ أبقته الأيام، وربما لهتك كبرياء أنثى أعلنت له الحب يومًا ثم تركته، أو بالأحرى، كما يردد هو على الآخرين بأنه هو من تركها، نعم أصبح يتفنن فى النيل من كرامتها، بل لا مانع أن يعرف من حيل الإناث أكثر ما يوجع مثلهن ثم لا يتوانى أن يفعله، أصبح ماكرًا فى فنون الحب.

ثم يتذكر ذاك القريب الذى أخذ يلقنه كلماتِ علّه يحفظها عن ظهر قلب، بأنه سيأتى ذاك اليوم الذى سينساها، بل ويتخطاها، وسيقول فى قرارة نفسه مثلها مثل أى امرأة صادفها ذات مرة على الطريق، بل ولن يتذكر ملامحها، وبات يقنعه بأن الحياة لا تقف على أنثى مهما بلغ مقدار الحب بينهما، بل مهما انقضت سنوات.. فسنة تلو الأخرى سيشعر حتمًا بالنسيان.
الآن وبتلك اللحظة السحيقة من الليل تتراكم الذكريات جميعها فى رأسه كى تعصف به عصفًا، يفكر فى والده الذى رحل عنه منذ أن كان فى المرحلة الأخيرة من الثانوية العامة وهو على أعتاب الامتحانات، يتذكر حلم أبيه بأن يراه يومًا مهندسًا مرموقًا، يتذكر تلك الانتكاسة التى أصابته حينها فطرحته أرضًا.. يتذكر أحلامًا صارت رمادًا، ثم تترقرق دمعة بعينيه يحاول أن يلاحقها، بل ويمنعها من أن تشق طريقها على وجنتيه، ثم تظهر له صورتها جليةً فى ذهنه وكـأنها ماثلة أمامه، فيعود من حيثُ انتهى ليتساءل لماذا يرحل كل من نتعلق بهم فى برهة؟!، لماذا نرسم أحلامًا لأناس ما عاد لنا الحق فى رؤيتهم من جديد؟! بل لماذا لا يمسك الفراق إلا بتلابيب من نحب، فإما تبتلعه الأرض بين طياتها أو يقذفه إلى عالم آخر ما عاد بوسعنا اختراق ضفافه! لماذا ولماذا؟! إلى أن تساقطت رأسه على الوسادة حتى شعر بثقل شديد فى جسده، وعيناه بالكاد ترى الأشياء حوله، وكأن الغرفة أصبحت عبارة عن دائرة تدور به وما هى إلا دقائق قليلة حتى ابتلعه النوم بين أحضانه فما عاد يشعر بشىء.