رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سعيد ناشيد: الشريعة ليست كلام الله ولا الرسول.. إنما كلام الفقهاء

جريدة الدستور

يذهب المفكر المغربي سعيد ناشيد إلى أن ما كان يسمى بالربيع العربي٬ كان ضمن عوامل عديدة لتغول الإسلام السياسي في المجتمعات العربية٬ وأن أمريكا راهنت على الإخوان المسلمين كقوة أساسية للتحكم في الأوضاع، وحول دعوات مساواة الذكر بالأنثى في الميراث٬ واهتمام الفقهاء بالشريعة وتركيزهم عليها٬ دون جوهر العقيدة٬ وغيرها من القضايا تستكمل "الدستور" حوارها معه.

وإليكم نص الحوار..

* لماذا لم يحقق التنويريون انتشارًا في مجتمعاتهم بعكس التيارات المتشددة؟
- ثمة عوامل عديدة لتغول الإسلام السياسي، أولا، ظروف الحرب الباردة والتي وضعت العالم الرأسمالي في مواجهة معسكر شيوعي كان يحمل سياسة إلحادية صريحة لا سيما في حقبة ستالين، وهذا ما منح للعالم الرأسمالي فرصة تعبئة الحركات الدينية في العالم برمته لغاية مواجهة الخطر الشيوعي.
في هذا الإطار عول العالم الرأسمالي طويلا على المجاهدين الأفغان، وعلى الإخوان المسلمين، وعلى صقور المذهب الوهابي، وكانت النتائج هي تغول الإسلام السياسي إلى درجة أنه كاد يبتلع المنطقة بأسرها، والأدهى أنه كاد يبتلعها لحساب الإسلام السياسي الأشد تطرفا، كما حدث في العراق وسوريا وكاد يحدث في سيناء أيضًا.
أثناء ما كان يسمى بالربيع العربي راهنت أمريكا على الإخوان المسلمين كقوة أساسية للتحكم في الأوضاع، مع ضمان الانضباط الكامل لتعاليم صندوق النقد الدولي، كما جرى عندنا في المغرب خلال فترة حكومة العدالة والتنمية، لا سيما خلال فترة عبد الإله بنكيران، والذي يسجل له المانحون والتاريخ أنه الرجل الذي استطاع تمرير أكثر الإجراءات قسوة دون أن ينتفض الشعب، والحال أن الرجل كما قلنا مرارا قد لعب لعبة خطرة: الاختباء خلف الدين، وخلف الملك، بمعنى إحراج المؤمنين بمشيئة الله، وإحراج المواطنين بمشيئة الملك، وهي لعبة خطرة لأنها ليست في مصلحة صورة الإسلام ولا هي في مصلحة صورة الملكية.

* في كتابك "الحداثة والقرآن" أشرت إلى الفوضى الدينية التي تجتاح دول الهلال السني.. فما أسبابها وكيفية علاجها؟
- التطرف الديني بصفة عامة موجود لدى السنة والشيعة بلا تمييز، بل تأثر التطرف السني كثيرًا بالظاهرة الخموينية، عموما يمكن القول إن الإرهاب السني المعولم هو ثمرة زواج ثلاثي بين ثلاث إيديولوجيات: القطبية، الوهابية، والخمينية، كل واحدة من هذه الإيديولوجيات ساهمت بترسانة مفاهيمية خاصة، من قبيل الحاكمية الإلهية وجاهلية القرن العشرين بالنسبة للإيديولجية القطبية، والولاء والبراء بالنسبة للإيديولوجية الوهابية، والاستكبار العالمي والثورة على الطاغوت بالنسبة للإيديولوجية الخمينية.
لكن الطابع المعولم للإرهاب والذي ساد في العالم السني على وجه التحديد يرتبط بالخاصية الاجتثاثية التي اتخذتها الظاهرة الدينية عندنا؛ فالنزوع إلى تدمير المزارات والأضرحة والقبب (الصوفية، أو الشيعية، أو حتى السنية نفسها) يرتبط بمنحى إبعاد الدين عن كل خلفية جغرافية ترابية وطنية، وذلك الاجتثاث هو الذي سمح ليس فقط بعولمة الإرهاب، وإنما بظهور إرهاب معولم؛ إرهاب ليس له أي ولاء لأي جغرافية أو مجال جغرافي، إذ ينطلق من أمة افتراضية هي "أمة محمد" أو "أمة لا إله إلا الله" كما يقولون.

* لماذا يهتم الفقهاء بالشريعة ويهملون جوهر العقيدة؟
- لأن الشريعة ليست كلام الله ولا كلام الرسول وإنما هي كلامهم هم بالذات، إنها ثمرة ذلك الجهد الذي بذله الفقهاء على مدى عشرات السنين، وهم يحاولون بناء أحكام عامة انطلاقا من نصوص القرآن والحديث وحتى نصوص الصحابة والتابعين.
إذن حين يدافع الفقهاء عن الشريعة فإنهم يدافعون عن كلامهم بالذات، المسألة متعلقة بإرادة السلطة، لكن شاءوا أم لم يشاءوا ذلك تبقى العقيدة هي جوهر الإسلام، فيما يسمى بتوحيد الربوبية.

* هل التفسيرات التي مر عليها 14 قرنًا للنص القرآني تلائم عصرنا الحالي؟
- يجب أن نتعامل مع الخطاب القرآني برؤية جديدة قائمة على أساس أن وظيفته تعبدية، إذ نصلي به، ونتعبّد بقراءته، ويمكن لأي إندونيسي أو ماليزي أو أمريكي أن يتعبد به دون أن يفهم بالضرورة معانيه، إذ أنه ليس دستورًا كما ردد الإسلام السياسي من باب المزايدة والإحراج، لا يتعلق الأمر بمجرد كلمة حق يراد بها باطل كما ردد علي بن أبي طالب في موقف لا يختلف كثيرًا، لكن يتعلق الأمر بكلمة باطل يراد بها باطل، ذلك أن مصطلح "دستور" لم يرد في الخطاب القرآني، فهو مصطلح غير قرآني إذن، ولم يسبق للقرآن أن وصف نفسه بأنه دستور رغم أنه أطلق على نفسه العديد من الأوصاف، فهل يجوز لنا أن نصف القرآن بوصف لم يصف به نفسه؟ هذا هو السؤال، على أننا نستطيع أيضًا أن نستلهم من الخطاب القرآني ما أسميه بالقيم الوجدانية، من قبيل الرحمة، والعفو عن الناس، وكظم الغيظ، إلخ. وهذا بعد أساسي من أبعاد الخطاب القرآني، أغفلها العقل الفقهي، وضيعها الإسلام السياسي، وقد آن أوان استرجاعها، إنها معركة التنويريين المسلمين بالأساس، معركتنا على وجه التحديد.

* حول الدعوة لمساواة الذكر بالأنثى في الميراث.. ألا ترى أنها تخالف حكم قطعي ثابت الدلالة في القرآن؟
- الذين يحتجون على مطلب المساواة في الإرث بدعوى أن أحكام النص القرآني قطعية الدلالة، نجيبهم بالتساؤل التالي: لماذا لا نسمع منكم نفس القول حين يتعلق الأمر بآيات الإماء والعبودية والهجرة وغيرها من "الأحكام" الموجودة في النص القرآني، والتي تتعامل معها الغالبية العظمى من المسلمين اليوم كأنها تندرج ضمن "ما نُسخ حكمه وبقي لفظه"؟
وعموما أظن أن قاعدة "ما نسخ حكمه وبقي لفظه" تقدم لنا مخرجا فقهيا معقولا لجهة عدم التقيد بأحكام الخطاب القرآني والتي تخاطب في آخر المطاف مخاطبين معينين، وتعني مأمورين محددين، سواء في المكان والزمان. أما المكان فهو "أم القرى وما حولها" وفق منطوق الخطاب القرآني نفسه، وأما الزمان فهو زمن أسباب النزول، وفق الخطاب الفقهي نفسه.
طبعا لسنا ننفي وجود اجتهادات لغوية تخص معنى الأنثى، أو معنى الحظ، في الآية (للذكر مثل حظ الأنثيين)، لكني أظن أن قابلية الأحكام للنسخ، لا سيما ضمن ما يُنسخ حكمه ويبقى لفظه، تقدم لنا مخرجا سلسا من الغلقة اللاهوتية. ويكفي أن نتساءل: هل الآيات التي كانت تأمر المسلمين الأوائل بالهجرة لا تزال تأمرنا اليوم بالهجرة طالما لا تزال مدونة بين دفتي النص القرآني، ولم يُنسخ لفظها، أم أن القول السديد أن نقول إن الآيات التي تأمر المسلمين بالهجرة قد انتهى العمل بها مباشرة عقب فتح مكة، وكل ما بقي بعد ذلك إنما يندرج بكل نزاهة ووضوح ضمن ما "نسخ حكمه وبقي لفظه"؟ ألا ينسجم هذا القول مع روح القرآن؟

* أخيرًا هل الأديان سر شقاء البشرية؟
- يمكننا أن نفترض بأن الأديان لها علاقة بالسعادة الأخروية أو بالشقاء الأخروى، هذا ما يمكن التسليم به في المستوى الافتراضي؛ فكما لا سبيل إلى إثباته فلا سبيل إلى إنكاره أيضا، إنما حين يتعلق الأمر بالدنيا فبكل تأكيد لا علاقة للإيمان الديني بالسعادة أو بالشقاء في الأرض، فالمسألة واضحة، في كل زمان ومكان قد يوجد متدينون سعداء وقد يوجد متدينون أشقياء؛ في كل زمان ومكان قد يوجد ملحدون سعداء وقد يوجد ملحدون أشقياء.
تديّنك لن يجعلك سعيدًا بالضرورة، وخروجك عن الدين إلى الإلحاد لن يضمن لك السعادة بالضرورة، فشروط السعادة والشقاء ترتبط بأسلوب الحياة نفسه، وبمدى قدرتنا على الاستمتاع بالتفاصيل الدقيقة والأشياء البسيطة، لكن لا بأس أن نعترف في المقابل بأن بعض أنواع التنشئة الدينية قد تزيد من منسوب الكآبة والحزن والشقاء، كمثال على ذلك، حين تنتهي التنشئة إلى إضعاف قدرة الإنسان على التحكم في الانفعالات السلبية، وحين تجعله ميالا إلى الخوف والغيرة والغضب والثأر والكراهية والحزن، فبكل تأكيد يتقلص الاستعداد النفسي للسعادة.