رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قضية الفنان التشكيلى والصحفية




الفيلم الرابع للمخرجة اللبنانية المتميزة نادين لبكى، «كفر ناحوم»، الذى شاركت به فى المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» السينمائى الدولى لهذا العام، يحكى قصة صبى رفع قضية فى المحكمة ‏على والديه اللذين أنجباه للحياة رغمًا عنه ودون أن يشاوراه فى الأمر!.. على طريقة رهين المحبسين (المعرى) وقوله الشهير «هذا جناه أبى علىّ وما جنيت على أحد»، يرفض الطفل فى الفيلم ‏الاستسلام لواقعه التعس ويتمرد على حياته القاسية التى يعيشها فقيرًا وفى ظروف غير إنسانية فى قريته «كفر ناحوم».‏
تذكرت الأمر حين أعلنت صحفية شابة من أصول ريفية إنجابها طفلة من فنان تشكيلى شهير لديه جنسية مزدوجة، وقضيتها تنظرها المحاكم اليوم، وتربطنى علاقة طيبة بطرفى الأزمة.‏
فالتشكيلى والمترجم الشهير بفضله قرأت الأعمال الكاملة للشاعر الإيطالى «أونجاريتى»، ومتعتُ بصرى بخطوطه وألوانه ومواقفه تجاه الوطن وقضاياه التنويرية بمنتهى الثبات والنبل، وشاهدت ‏بنفسى وقوفه فى صف «أحمد ناجى» بعد سجنه فى قضية اُتهم فيها بخدش الحياء والتحريض على الفسق!، أما الصحفية فقد أجرت معى حوارًا عن برنامجى الثقافى منذ أعوام مضت.. ستنقضى ‏تلك القضية حتمًا كما انقضت قضايا كثيرة قبلها، ولكن يبقى السؤال: هل سيأتى اليوم الذى ترفع فيه تلك الطفلة قضية على أمها لتقتص منها لأنها أنجبتها عنوة ودون رغبة أبيها، بل دون رغبتها؟!. ‏هل ستتحقق نبوءة «نادين لبكى» فى الواقع كما ساقتها فى فيلمها؟!. هل هذا العهد آتٍ بعد حلقات لا تنتهى من معاناة الصغار وما يكابدونه فى تلك الحياة نظرًا لاستهتار طرف ما فى تلك المعادلة ‏أو ربما عدم رشد الطرفين؟!. ‏
انحيازى الأكيد لتلك الطفلة ولجموع الأطفال الذين لم أرغب فى إنجابهم، وامتنعت عن ذلك لأننى أحبهم، ولأننى لم أشاورهم فى أمر استقدامهم لتلك الحياة دون أن يختاروها، ودون أن يختاروا حتى ‏آباءهم ولم يختاروا أيضًا البلد الذى يريدون العيش فيه.. أو إن كانوا يريدون خوض تجربة الحياة من البداية أم لا. أصوات فى الخارج الآن ترفع شعارا يقول «إن الإنجاب جريمة» فى كوكب على ‏وشك الانفجار، يملؤه التطاحن والحروب التى تندلع ولا تنطفئ فى كل مكان، فما حال الإنجاب إذن فى بلد يعانى من الانفجار السكانى ولا يتبع النهج العلمانى الذى يعطى الحق لمن نسميهم هنا ‏‏«لقطاء» بأن يحملوا أسماء عائلات أمهاتهم التى سيناديهم بها الله يوم الموقف العظيم؟.‏
الكل يعرف حتمًا من أنجبت.. لكن البعض لا يعرفون ذلك الذكر الذى خصب أنثى النحل وغادر، وبعض النساء ممن قرأن وتبحرن بتمعن فى كتاب «علم اللوع» يفضلن القيام بدور «الشغالات» ‏فى مملكة النحل الأرضية، ويحاصرن الذكر الطالب للشهوة حتى يقضى حاجته ويرحل، ويحملن منه وليدًا لتكون لهن ثروته أو اسمه أو شهرته إن كان كذلك.. وليكون لديهن أحيانًا أيضًا جنسية بلد ‏آخر، ضاربات عرض الحائط بحياة ذلك الذكر الماضية وما وراءه وما كان قد اتفق عليه مسبقًا، والعقد شريعة المتعاقدين، وإن كان شفاهيًا. فالقرار والاختيار والشفافية هى سيدة الموقف وكل ‏المواقف عندما تتسم تلك المواقف بالنبل من طرفيها، لكن عندما تتدخل البرجماتية فى السياقات الحميمية يكون المنتوج طفلًا لا يرغبه هذا ويستخدمه ذاك لمآرب!!، وبالتالى ترتكب كبرى الجرائم ‏الإنسانية والأخلاقية بادعاء الحق فى الأمومة دون النظر لحق الطفل ومستقبله. وضع بائس حله يكمن فى علمانية الدولة، فإن علمت من درست علم اللوع بشكل جيد أن وليدها سيحمل اسم عائلتها ‏هى ولن يحمل اسم عائلة الشهير أو الثرى ولن يرثه أو يرث عنه جنسيته سيُقضَى على علم اللوع فى مهده وسيُقضَى على كل المآرب.‏
وستنجب بالفعل وقتئذٍ من هى مستعدة فقط للإنجاب وتحمل كلفته وحدها إن كان قرارها بالإنجاب قرارها وحدها.. وهذا ما يحدث فى الكثير من الدول المتقدمة والعلمانية التى تقدس حرية الفرد ‏وسلامه النفسى والداخلى دون الإخلال بالقانون، فتمنح للمرأة الحق فى أن تنجب وتحقق حلمها للأمومة دون ذكر لا بد أن يتحمل عبء تحقيق حلمها.. بنوك فى الخارج تخزن البويضات وما يمكنه ‏تخصيبها بالحقن دون الحاجة لرجل ودون الحاجة لاسمه أو الالتزام بعلاقة معه أو تجاهه، والعكس فالعلمانية هى العدل المطلق، العلمانية ستعطى الحق للطرفين بأن يتراضيا فى أن ينجبا أو لا ينجبا، ‏وإن أراد أحد الأطراف الإنجاب متحملًا كل التبعات المادية وغير المادية وحده سيكون له ذلك حتى دون علاقة ودون زواج.‏
وبدلًا من أن تعج المحاكم بقضايا إثبات النسب وتحاليل الـdna، وتلكؤ البعض فى إجرائها أو رفضها رفضًا قاطعًا لأسباب عدة، ربما ستمتلئ المحاكم فى يوم ما قريبًا كان أو بعيدًا، وكل آتٍ قريب، ‏بقضايا يرفعها صبية وفتيات يقاضون فيها أمهاتهم أو آباءهم- أحدهما أو كليهما- لأنهم قد أنجبوهم دون أن يشاوروهم فى الأمر.. سنرى.‏