رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جوزيبى سكاتولين: بعض المفكرين الإسلاميين ‏متواطئون مع الإرهابيين

جوزيبى سكاتولين
جوزيبى سكاتولين

يجب مقاومة بعض أفكار ابن تيمية.. والصوفية ضرورة لإنقاذ البشر من تدهور شبه محتوم

‏«الإسلاموفوبيا» أصبحت سلاحًا خطيرًا فى يد المسلمين المتطرفين لإيقاف الفكر النقدى

لا بد من ثورة روحية متجددة لمواجهة الحركات الإرهابية والعولمة التسويقية

لا توجد مقاومة جادة من الطرف الإسلامى ضد المتطرفين ومستخدمى العنف



على مدار ما يقرب من أربعة عقود، بدأ المستشرق الإيطالى جوزيبى سكاتولين، أستاذ التصوف الإسلامى بالمعهد البابوى للدراسات العربية والإسلامية بروما، فى بحث ‏وتفكيك ظاهرة التصوف، بما تحملها من أبعاد روحية، يمكنها أن تسهم فى حل الكثير من الإشكاليات فى حياة الإنسان المعاصر شرقيًا كان أم غربيًا. فى كتابه «تأملات ‏فى التصوف والحوار الدينى» يركز سكاتولين على دور التصوف والبعد الروحى فى الأديان فى خلق وحدة واحدة متمثلة فى قيم أساسية تمثل روح كل الأديان وجوهرها، ‏يمكن أن تكون نقطة انطلاق نحو حوار جاد وحقيقى بين الأديان قائم على احترام كل دين معتقدات غيره وتفادى الخصومات والعراكات القائمة على الاختلافات بين الأديان.‏
فى الوقت الراهن، وبينما يتم التلويح كثيرًا بورقة «الصوفية» كحل يرجحه البعض للتخلص من إشكالية الخطاب الدينى المتطرف والفكر الأصولى الذى أنتج فتاوى ‏تكفيرية وخطابًا متشددًا، أسهم فى تعزيز انتشار الإرهاب، كان لهذا الحوار مع سكاتولين أهمية خاصة لاستنباط إمكانيات تطبيق الأفكار التى طرحها فى كتابه على الواقع ‏الراهن، خصوصًا أنها كثيرًا ما بدت «طوباوية» غير قابلة للتطبيق، بل أحيانًا كانت الخبرة التاريخية تُثبت أن النظرية دائمًا أسهل من أن تصير واقعًا، فى ظل ضعف ‏الحركات الصوفية فى مواجهة الفكر المتطرف وارتهانها لنفوذها ومصالحها فى أحيان كثيرة، وفى ظل إشكاليات أيضًا تتعلق ببساطة الطرح المُقدم عن حوار الأديان بناء ‏على جوهرها، بينما فى الواقع تعانى الديانات من نفى وتكفير بعضها البعض. ‏

‏■ تدعو إلى حوار جاد وحقيقى بين الأديان قائم على احترام كل دين معتقدات غيره.. كيف يمكن تطبيق ذلك فى الواقع؟ ما السبيل لتفادى صراع الأديان برأيك فى الوقت الذى يقدم فيه كل ‏دين نفسه باعتباره الدين الحق، وفى ظل «روح المجادلة والخصومة» التى تحدثت عنها فى كتابك؟
‏- الحق أننى لا أدعو إلى حوار جاد وحقيقى بين الأديان قائم على احترام كل دين معتقدات غيره فقط، وإنما أدعو إلى الانفتاح على الآخر المختلف للكشف عن القيم الروحية المشتركة بينهم، ويمكن ‏تلخيصها برأيى فى خمسة مبادئ أساسية: الرحمة والمحبة والحق والعدل والسلام. وكذلك أدعو إلى رجوع كل دين إلى جوهره الأساسى وهو أيضًا يتلخص فى تلك المبادئ الخمسة المذكورة آنفًا. وأدعو ‏كل دين إلى نبذ كل ممارسات العنف التى وقعت فى ماضيه وحاضره. ‏
فى رأيى، ليس هناك برىء فى تاريخ البشر. وهذه المبادئ أعتبرها المقدمات الأساسية لكل حوار دينى جاد وحقيقى، وإلا سيصير هذا الحوار باطلًا، لا جدية فيه، بل سيتحول إلى مسرحية من المجاملات ‏الفارغة. وللأسف الشديد هذا ما يحدث فى أغلب اللقاءات الحوارية الجارى تنظيمها فى وقتنا الحاضر. فعلينا أن نميز دائمًا بين الدين كوحى من الله، وهو علاقة بين الرب والعبد لا تدخل بشريًا فيه، والدين ‏كفكر دينى وهو جملة من التفسيرات والتشريعات والأحكام المستنتَجة من النصوص الدينية من خلال مجهود بشرى، فهى عمل بشرى قد يصيب أو لا، والدين كممارسة دينية من طرف المنتمين إلى ذلك ‏الدين، وهم بشر مع كل الأخطاء والخطايا التى يرتكبها البشر.‏
‏■ تدعو إلى نظرة نقدية عربية للذات لمواجهة ظاهرة التطرف بدلًا من ردها لعوامل خارجية.. ما الأسس التى تظن أنها بحاجة إلى مراجعة نقدية فى مواجهة هذه الظاهرة؟ هل فى ‏التفسيرات الدينية فقط أم أنها تتعلق بالتاريخ الثقافى والاجتماعى العربى؟
‏- هنا يطول الكلام فى خطاب معقد كهذا. من جانبى عشت هذه المشكلة كخبرة شخصية. حيث إننى حصلت على الليسانس فى اللغة العربية وآدابها من جامعة القاهرة، ولاحظت أثناء حضورى ‏المحاضرات هناك، أنها كانت فى الغالب تكرارًا لما قيل فى الماضى. ثم قَدمْت إلى رسالة الدكتوراه، وتناولت موضوع الخبرة الصوفية عند الشاعر المصرى العظيم، عمر بن الفارض. وحاولت تجديد فهم ‏شعره الصوفى من خلال تطبيق مناهج بحثية جديدة، فتوصلت إلى نتائج صححت الكثير مما قيل عنه فى الماضى. وكانت هذه النتائج مقبولة جدًّا عند الكثير من الدارسين فى هذا المجال. فخبرتى هذه ‏أقدمها كمثل فى تجديد الفكر العربى الإسلامى. ‏
لقد سمعت، ولا أزال أسمع، الكثير بل الكثير جدًّا من الشكاوى ضد الغرب، وكأنه السبب الرئيسى لتخلف الثقافة العربية والإسلامية. ولكن، فى رأيى، تلك الشكاوى لا تساعد فى شىء لدفع عجلة تقدم ‏الثقافة إلى الأمام، وكذلك مجرد الارتداد إلى الماضى لا يقدم حلًا معقولًا لها. فهذا الموقف فى رأيى موقف طفولى، إذ من المعروف أن الطفل يبرر نفسه مع رمى الذنب على الآخرين. إن الإصلاح ‏الناضج الحقيقى يجب أن يبدأ دائمًا من ذات الشخص أو ذات الحضارة. هناك فى سير التاريخ البشرى مراحل ودرجات فى حركة مستمرة لا يمكن إيقافها فى وقت معين. إن القدماء فهموا الطبيعة فى ‏ضوء مفاهيمهم القديمة، وعلى نفس المنهج فهموا النصوص الدينية فى ظروف ثقافتهم القديمة. أما الآن فلا بد أن نفهم تلك النصوص فى ضوء ثقافتنا الحديثة وعلومها. أظن أنه ليس من المعقول أن نعيش ‏فى ازدواجية متواصلة بين الماضى والحاضر. فمن ناحية نستعمل الكمبيوتر، ومن ناحية أخرى فلا نزال نتصور تكوين الأفلاك حسب أفكار القدماء وتصوراتهم، والكلام يطول فى هذا الموضوع، لقد ثبت ‏عندى أنه لا بد من أخذ هذه القضية بكل جدية وجرأة لنتفادى ما يمكن أن يحدث فى المستقبل من الكوارث الثقافية والوجودية. ‏
وفى النهاية أرى أن الإصلاح الصحيح، يجب أن يبدأ دائمًا من إصلاح باطن الإنسان أولًا، أى من قلبه وروحه، فهناك يقع جوهر الذات الإنسانية، لذلك أقول دائمًا: إذا فسد الجوهر، فسد الكل لا محالة. ‏لذلك كتبت عنوانًا ثانويًّا لكتابى المذكور أعلاه: «من أجل ثورة روحية متجددة». فلنبدأ إذن من إصلاح الجوهر لإصلاح الكل. ‏
‏■ تتحدث عن جوانب سلبية ناجمة عما أسميتها «العولمة التسويقية» على الصعيدين الثقافى والدينى. فما رؤيتك للخلاص منها فى ظل كونها واقعًا لا سبيل لتجاوزه؟
‏- ما كتبته عن «العولمة التسويقية» يُقدّم صورة أمينة للواقع الذى نعيشه نحن فى زماننا هذا. من هنا يبدأ التفكُّر فيها مع التحليل لأسبابها واقتراحات عملية للتخلص منها. إذن، علينا أن نعرف أسبابها على ‏المستوى النظرى والعملى. وهنا أيضًا يطول الكلام. فباختصار شديد نقول: علينا بصحوة روحية متجددة للحفاظ على القيم الإنسانية الأساسية والممثَّلة فى المبادئ الخمسة المذكورة أعلاه. وفى هذا الصدد ‏على الأديان العالمية دور ضرورى فى غاية الخطورة، ولذلك يجب الحوار والتعاون والتبادل فيما بينها. ومع هذه الصحوة أو الثورة الروحية المتجددة يجب أيضًا وجود ثورة ثقافية متجددة مع استرجاع ‏الكثير من الكنوز الحكمية الإنسانية التى ظلت ماء الحياة للبشرية عبر تاريخها الطويل، للمقاومة العملية ضد التكتل الثقافى وتسويقه المطلق. أما على مستوى العمل، فيجب مقاومة الهيمنة التسويقية العالمية ‏مع منع الاحتكار المطلق بموارد الطاقة الطبيعية من طرف الرأسمالية العالمية. وهذا مثلًا يمكن بإنشاء الكثير من المؤسسات الاقتصادية ذات الصبغة الأكثر إنسانية على طراز الشركات المحدودة تحت ‏رقابة السياسة الدولية. وكذلك يجب أن ننشر فى الثقافة العالمية الشعار: ليس الإنسان للاقتصاد بل الاقتصاد للإنسان، لتغيير ثقافة العصر. ولا شك أن المقاومة فى هذا المجال ستكون فى غاية الصعوبة، إذ ‏إننا نلمس هنا مجال الفوائد المالية الكبرى ومصادر القوة الشخصية والاجتماعية. ولكن، رغم تلك الصعوبة، فلا بد من الخوض فى هذه المقاومة لإنقاذ البشرية من التدهور تحت طغيان العولمة التسويقية ‏المهيمنة. ‏
‏■ ترى أن «الصحوة الواسعة لقبليات جديدة بين عرقية وثقافية ودينية رد فعل على الأيديولوجيات الشمولية الإطلاقية والتذرية الأخلاقية (التابعة للعولمة التسويقية) ومن ثم ظهرت ‏دعوات للعودة إلى القبيلة المحدثة»... ألا يعد ذلك اختزالًا لتاريخ من الصراعات على أسس طائفية ودينية؟ وهل يمكن اعتبار التصوف ضامنًا لتفادى هذا التاريخ من الصراع مستقبلًا؟
‏- ما قلته فى كتابى «تأملات فى التصوف والحوار الدينى»، محاولة منى ومن غيرى لفهم ظاهرة «القبليات الحديثة أو المحدثة». فلها أسباب عديدة منها داخلية ومنها خارجية. هناك أسباب تأتى من داخل ‏الأديان والأيديولوجيات المختلفة، أى من الفكر الدينى الذى كما قلنا هو عمل بشرى، إلا أنه تم تأليهه على يد بعض المفكرين السياسيين مثل الذين أسسوا الحركات المتطرفة الإرهابية المعاصرة والمنتشرة ‏فى العالم الإسلامى كله. ومن الملاحظ أن هذه الحركات استمدت أفكارها الأساسية من المفكر الإسلامى ابن تيمية الذى يعتبره الكثير من الباحثين من المصادر المهمة للفكر الإسلامى المتطرف، لذلك يجب ‏مقاومة هذا الفكر المتطرف من داخل الإسلام أولًا. ‏
هناك أيضًا أسباب خارجية، وهى متعلقة بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الظالمة، وهذه تجرى الآن تحت هيمنة العولمة التسويقية الممثلة فى المنظمات الاقتصادية الكبرى من غربية ‏‏(ومحورها الولايات المتحدة الأمريكية) وشرقية (ومحورها الدولة الصينية والرأسمالية الإسلامية وغيرهما)، أو تحت دفع من الحركات الإرهابية المعاصرة. ومن الملاحظ أن تلك الحركات المتطرفة ‏الإرهابية ترفع شعارات دينية لكى تبرر أعمالها الإرهابية. ‏
ومن طرفى أنا، أعتبر أنه لا بد من ثورة روحية متجددة لمقاومة كلتا الظاهرتين من العولمة التسويقية والحركات المتطرفة الإرهابية. لذلك أُقدِّر الفكر الصوفى كل التقدير، لأنه يحتوى على الكثير من ‏الأفكار والممارسات الروحية التى بإمكانها أن تساعد فى هذه المقاومة الروحية لإنقاذ البشر من تدهور شبه محتوم. ‏
‏■ ما الذى تسبب فى تعميق الفجوة برأيك بين الغرب والإسلام؟ وإلام تُرجع تصاعد موجات الإسلاموفوبيا.. هل السبب هو تصدير الإعلام الغربى لصورة مغلوطة أو غير موضوعية عن ‏المسلمين، أم أن ما يُقدّم يعكس واقعًا مهيمنًا بشكل كبير؟
‏- الواقع أننى لا أحب التعميمات من أمثال «الغرب» و«الشرق». فهذا كان الخطأ الفاضح فى كتاب «الاستشراق» للكاتب الفلسطينى إدوارد سعيد. فما يُسمى بـ«الغرب» هو فى الواقع مجموعة من ‏الدول المختلفة، ظلت قرونًا طويلة شديدة الخصومات والحروب فيما بينها، وفى الفترة الأخيرة فقط توصلت إلى نوع من الوحدة فيما بينها. وكذلك ما يسمى بالثقافة الغربية هى بالفعل مجموعة من التيارات ‏الفكرية المختلفة والمتناقضة أشد التناقض، فمنها المؤمنة ومنها الملحدة، ومنها اليمينية أشد اليمين واليسارية أشد اليسار. وكذلك يجب أن يقال بما يخص المسمى بـ«الشرق». وكذلك ما يسمى ‏بـ«الإسلاموفوبيا» أى «الكراهية للإسلام»، فهو لفظ مدلولاته عديدة يجب توضيحها وتحديدها وإلا سنتخبط فى جوٍّ ضبابى لا وضوح فيه. ‏
يجب أن يلاحظ أولًا أن التاريخ بين ما يسمى بـالعالم الغربى، وما يسمى بـالعالم الشرقى الإسلامى، كان من الأسف الشديد سلسلة من العلاقات التى اتخذت فى الغالب صبغة عدوانية وخصومية وحربية ‏دامت ما يقرب من أربعة عشر قرنًا: أى منذ وفاة رسول الإسلام حتى أيامنا هذه. ونلاحظ كذلك أن عشرة قرون منها غلبت فيها هجمات الدول الإسلامية على الدول الأوروبية، أى حتى هزيمة الجيوش ‏العثمانية تحت أسوار ڤيينا عام ١٦٨٣. كما يجب أن يُلاحظ فى هذا الصدد أيضًا أن ما يسمى بالحملات الصليبية ما دامت فى أشدها إلا قرنًا من الزمن تقريبًا، أى منذ سقوط القدس فى أيدى الصليبيين سنة ‏‏١٠٩٩م حتى ردها إلى حظيرة الإسلام القائد الإسلامى صلاح الدين الأيوبى، بانتصاره على الصليبيين فى معركة حطين سنة ١١٨٧م، وبعد ذلك خمدت شيئًا فشيئًا الشوكة الصليبية. ومن المعروف أيضًا ‏أنه بعد معركة ڤيينا، بدأت حركة الاستعمار الأوروبى تنتشر فى دول الشرق الأوسط. ولا شك عندى أن هذه السلسلة الطويلة من الحروب والخصومات المتبادلة أثَّرت فى أذهان تلك الشعوب، وأنها أورثتها ‏الكثير من الكراهية العميقة والبغضاء المتبادلة بينها، شرقًا وغربًا. زِد على ذلك أن كلا الجانبين رفع شعارات دينية لتبرير حروبها ضد الآخر مع تشويه صورته بل شيطنتها فى أذهانهم. وأعتبر أن هذه ‏هى الجذور البعيدة للكراهية ضد العالم الإسلامى فى تصور الكثير من الغربيين، والعكس صحيح. ‏
وزيادة على ذلك فإن قيام الحركات القبلية الإسلامية المتطرفة والإرهابية الحديثة زادت وقودًا لنار هذه الكراهية ضد العالم الإسلامى من طرف الكثير من الأوروبيين، فقد لاحظوا عدم وجود مقاومة جادة ‏من الطرف الإسلامى ضد تلك الحركات الإرهابية، بل هناك صمت عليها وتبريرها أحيانًا عند بعض أفكار ابن تيمية. ويلاحظ أيضًا أن تلك الكراهية تنتشر خاصة عند الحركات اليمينية المحافظة فى ‏أوروبا، وليس عند جملة شعوبها بصفة عامة. ورغم هذا الماضى الدامى بين الطرفين، فإنه يُلاحظ أن التبادل العلمى والثقافى استمر واشتد بينهما، مما أدى إلى نتائج إيجابية لكليهما. فلا بد من مقاومة هذه ‏الظاهرة المتطرفة والإرهابية بكل الوسائل من علمية وثقافية ودينية، لا بالعنف المضاد فقط، فهذا يزيدها قوة وحماسة.‏
تهمة «الإسلاموفوبيا» أصبحت الآن سلاحًا خطيرًا فى يد المسلمين المتطرفين لإيقاف الفكر العلمى النقدى بما يخص العالم الإسلامى. فصرنا الآن فى بعض الجماعات الأوروبية، نجد أن الذى يتجرأ أن ‏يقدم أى نوع من البحث أو الدراسة النقدية تخص العالم الإسلامى يُتهم بالعنصُرية، وبالتالى يُوقَف عن التدريس. هكذا رجعنا إلى دوجماطيقية العصور الوسطى تحت رحمة تهمة «الإسلاموفوبيا».‏
‏■ ما أوجه الاختلاف بين التصوف الإسلامى والمسيحى برأيك؟ وإلى أى مدى تشيع فكرة التصوف فى المسيحية؟
‏- التصوف هو الحياة الرُّوحية فى الإسلام، كما قال الكثير من المتصوفة والدارسين. لا يوجد تصوف مسيحى مثلًا، أو بوذى أو هندوسى. فهذه الحياة الروحية فى الإسلام أى التصوف أساسه الإيمان ‏الإسلامى، أى الإقرار بالتوحيد المطلق. وهناك، كما يقول الإمام أبوحامد الغزالى، أربعة أنواع من التوحيد: اللفظى على مستوى اللفظ، والكلامى على مستوى العقل، والوجدانى على مستوى القلب، ‏والروحانى على مستوى الروح. فالصوفى يصل فى آخر طريقه الروحى إلى الفناء التام فى الله، فلا يبقى هناك فى الوجود إلا الله: هذا ما يُسمى بـ«الفناء عن الذات والبقاء فى الله». ‏
أما الروحانية المسيحية فهى مؤسسة على الإيمان المسيحى بأن «الله محبة»، فهو فى ذاته شركة محبة بين المُحب الأزلى (الذى يسمى الأب) والمَحبوب الأزلى (الذى يسمى الابن) والحُب الأزلى (الذى ‏يسمى الروح القدس). فالمسيحى يؤمن ويشعر بأنه مدعو لكى يصل فى آخر طريقه الروحى إلى كمال المحبة، حيث يندمج بالكامل فى تلك المحبة الأزلية الأبدية. ولا شك أن الذى يتأمل فى كلتا الخبرتَيْن ‏الرُّوحيتين يكتشف فيهما الكثير من وجوه الشبه والاختلاف فى نفس الوقت. فلا غرابة فى ذلك، إذْ إننا هنا أمام سر الألوهية المتعالى أى الغيْب المغيَّب المطلق الذى لا تدركه الأبصار البشرية. والحقيقة أننا ‏فقط بالنور الإلهى، نعرف شيئًا من ذلك السر الإلهى: هذا ما يقول كل مَن خبر بذاته هذه الخبرة المتسامية، ويقول القديس أوغسطين: «إذا أدركتَه فهو ليس إلهًا». وعلى كل حال هناك حاجة ماسة للتعارف ‏بل للمشاركة المتبادلة فى الكنوز الروحية الواردة فى الأديان الإبراهيمية، وغيرها من الأديان العالمية: فكل ما هو قدوس، حسن وحق فى كل دين يأتى ممن هو الأقدس والأحسن والحق بصورة مطلقة. ‏
هل ما زال الاستشراق أسيرًا للمنهجية والنظرة الغربية؟
وما الرؤية الغربية التى تراها سائدة فى الغرب عن العالم العربى؟

‏- هذا موضوع كبير وأنا داخل هذا الموضوع، هناك الكثير من الكلام عنه بعيدًا عن الحقيقة. باختصار شديد يجب التمييز بين الاستشراق العلمى الذى طوَّر الدراسات عن العالم ‏الشرقى الإسلامى، فى ضوء المبادئ العلمية الحديثة، وبعض المستشرقين الذين تحالفوا مع القوات السياسية والأوروبية. يجب التمييز بين الاستشراق العلمى والسياسى، لأن ‏وضعهما فى كفّة واحدة فيه ظلم للمستشرقين وللدراسات الاستشراقية. وفيما يتعلق بالدراسات الاستشراقية المهتمة بالتصوف، لاحظت من الدارسين الغربيين الاحترام للتصوف ‏والتعجب أمام هذه الظاهرة الكبيرة ممثلة فى التصوف الإسلامى والقيم الروحية فيه. ‏
أما بخصوص الرؤية السائدة، فمن الصعب القول بأن هناك صورة موحدة، هناك تيارات مختلفة حسب المنهج العلمى للدراسات. أظن الآن وبعد أن تخطت أوروبا مرحلة الاستعمارية، ‏ورجعنا ننظر إلى الآخر المختلف نظرة موضوعية أكثر دون روح الاستعلاء على الآخر صارت المسألة أكثر اعتمادًا على المنهج العلمى فى الدراسة. علينا إذن أن نصحح صورة ‏الاستشراق ولا نعزز فكرة أن الاستشراق معادل للاستعمار.‏