رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة يوليو العظيمة (1)


هذا مقال من ثلاثة أجزاء للحديث عن تجربة يوليو ١٩٥٢م، تلك الثورة التى حققت لمصر الكثير، وأخفقت فى الكثير كذلك، لكنها ربما ستبقى التجربة الأكثر تأثيرًا وإنجازًا، وإن تأثر البعض بالدعايات الكاذبة عنها. من المثير للدهشة أنك ستجد أشد الناس عداوة لجمال عبدالناصر، الإسرائيليين والإخوان المسلمين!. وقصة صدام الإخوان مع عبدالناصر لم تكن دينية على الإطلاق، أو كانت بإيعاز من جهات أجنبية، كما يروج بعض الوجوه البارزة فى جماعة الإخوان، فقد وصل الهزل أن قالت السيدة زينب الغزالى، القيادية الإخوانية البارزة فى مذكراتها: «إن المخابرات الأمريكية والمخابرات الروسية والصهيونية العالمية قدمت تقارير مشفوعة بتعليمات لعبدالناصر بالقضاء على الحركة الإسلامية»، وهى تقريبًا نفس العقلية الإخوانية التى رأيناها تستنجد بالأمريكان وتعتبر فى نفس اللحظة أن ٣٠ يونيو مؤامرة أمريكية.

بالتأكيد لم يكن الصراع دينيًا، فلا الإخوان المسلمون هم الإسلام، ولا عبدالناصر كان ضد الإسلام، فعدد المساجد فى عهد عبدالناصر، زاد من ١١ ألفًا إلى ٢١ ألف مسجد، أى أن فى فترة حكم جمال عبدالناصر «١٨ سنة» تم بناء عشرة آلاف مسجد، وهو رقم يقارب ما بنى فى مصر من مساجد منذ عمرو بن العاص حتى عصر جمال عبدالناصر.. وذات مرة سأل الهضيبى مرشد الإخوان وقتها، جمال عبدالناصر فى أيام ثورة يوليو الأولى، وكانت الثورة قد حددت أهدافها الستة المشهورة: «وأين الإسلام؟!»، فكان رد عبدالناصر: «إن التحرر من الاستعمار والاستغلال بداية العمل للإسلام».

هكذا فهم جمال عبدالناصر الإسلام، فأخذ على عاتقه التحرر من الاستعمار والتبعية، والتحرر من الاستغلال وسيطرة الأجانب على الاقتصاد تحقيقًا للعدالة الاجتماعية، ونصرة للفقراء المستضعفين كما يأمر جوهر الدين، وفى إنجازات «الـ١٠٠ يوم الأولى» لحكم ثورة يوليو أكبر دلائل على الانحيازات الواضحة لصالح أغلبية الشعب من الفقراء، فبعد ٩ أيام فقط من قيام ثورة يوليو «٢ أغسطس» تم إلغاء رتب الباكوية والباشوية تحقيقًا للمساواة، وفى «٤ سبتمبر» أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بعملية تطهير شاملة للإدارات والمؤسسات الحكومية، وفى «٩ سبتمبر»- أقل من ٥٠ يومًا- أصدر مجلس قيادة الثورة قانون الإصلاح الزراعى بتحديد الملكية الزراعية بحد أقصى ٢٠٠ فدان وتوزيع الباقى على فقراء الفلاحين، وأحدث هذا القانون تغييرًا جذريًا فى تركيبة المجتمع، وحقق العدالة الاجتماعية المنشودة، فأخيرًا أصبح الفلاح المصرى مالكًا لأرضه، بعد أن كان ذليلًا عند الباشا الإقطاعى، والغريب فى الأمر أن حسن الهضيبى مرشد الإخوان وقتها عارض هذا القانون، على الرغم من أن هذا القانون كان هدفه تحقيق العدل، والعدل كما نعلم هو صلب الإسلام.

ومنذ ١٩٥٤ حتى ١٩٦٥ سحب عبدالناصر البساط من قواعد الإخوان الشعبية بإنجازاته الاجتماعية والاقتصادية على الأرض، فقد أممت مصر قناة السويس بقرار وطنى جرىء، وبدأت فى بناء السد العالى، وحققت الخطة الخمسية الأولى «١٩٦٠-١٩٦٥»، أعلى معدلات نمو فى العالم الثالث، بشهادة البنك الدولى المعادى لنظام ناصر، والرافض لتمويل بناء السد العالى، ودخلنا فى خطة تصنيع كبرى، منها على سبيل المثال، مشروعات الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب، ومصانع عربات السكك الحديدية، ومد خطوط الكهرباء من أسوان إلى الإسكندرية بعد السد العالى، وبدأت مصر مع الهند ويوغسلافيا مشروعًا لتصنيع الطائرات، وبدأت مصر عصر المفاعلات النووية بمفاعل أنشاص النووى، وكان الفرق بين المشروع النووى الإسرائيلى والمشروع النووى المصرى سنةً ونصفًا فقط، رغم الدعم الأمريكى الهائل لإسرائيل.