رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالرحيم طايع يكتب: رُجْحان المال وخُسْران الجمال

عبدالرحيم طايع
عبدالرحيم طايع

لم يعد باقيًا من الأحلام حاليًا سوى امتلاك ثروات طائلة بصرف النظر عن مصادرها للأسف.. فالظاهر أنها أرجى الآمال وأبلغها مع الحالة العالمية المتصاعدة لجعل كل شىء سلعة وكل سلعة بثمن، حتى القيم المجرَّدة.. أما الحديث الطيب عن توخِّى الكسب الحلال وإيثار القناعة ونشر ثقافة التكافل الاجتماعى والحرص على التقريب بين الطَّوائف والفئات، وغير ذلك ممَّا يُلْهِم القلوبَ الخيرَ، ثم ترك الأجر على الله الكريم وحده؛ فكأنما هو حديث البرامج الدينية للسُّذَّج، ولا طائل تحته.
الدِّين نفسه أمسى كثيرون من الدعاة إليه نجومًا ينصحون الخلق بالصبر والزهد، وهم لا يصبرون على جوع يوم واحد ولا يزهدون فى الدنيا ومتاعها ساعة، بل يجأرون بالشكوى، مسرعين، لو تأخرت رواتبهم الضخمة عن موعد تحصيلها المعلوم، وبكل بساطة يؤثرون العروض المالية الأكبر لقنوات الإعلام المتنافسة بضراوة، مقبلين على النقود إقبال المغرمين؛ فلا يتباطأون عنها مخافة حساب ولا عقاب، ولا يتحرَّجون منها مهما تكن.
لقد غابت القدوة وبرزت الأموال على رءوس القوافل بأسرها تقود ولا تقاد، وتشترى ما لا يباع بنفس السهولة التى تشترى بها ما يباع.
بالنظر الآن إلى أسعار لاعبى الكرة فى بلادنا المثقلة كواهلها بالأعباء؛ يمكن أن يفقد العقلاء صوابهم، فاللاعب الواحد، فى نظام الاحتراف، يفوق سعره ميزانية إقليم كبير، وليته يحقِّق النتائج المرجوَّة فى النهاية، بل غالبا يجلب الخذلان لعَلَمِه الوطنى.. هكذا أجور الفنانين المبالغ فيها، ولو نقد الوضع ناقدٌ؛ قيل له: هذه شركات خاصة لها أن تمنح عطاءها الجزيل لمن تشاء وأن تمنعه كذلك عمَّن تشاء. بَيْدَ أن الأعمال الركيكة التى يقدِّمها معظم هؤلاء وفنَّانوهم تهدم المقولات الدفاعية المغرورة التى كالتَّألُّه البشرى المرفوض هدمًا فى الآخر، وتثبت أن أكثرها شركات تخريبية فى العمق؛ فلا ترتقى بذائقة المتلقِّين ولا تحترم الفن نفسه إذ تسلِّمه لهواها الفاسد وبعدها تطرحه فى الأسواق طرحا تجاريا رخيص المعنى يشير إلى عدائه الفادح للجمال.. فلماذا لا تتدخَّل الدولة لحماية هيبتها من عبث المال بالرياضة والفن والإعلام؟ ولماذا لا ينبِّه المثقفون الأيقاظ جموعَ النائمين لسخرية البنكنوت منَّا؟ ولماذا نغدق المال أصلا على شخص بعينه مُرَاعِينَ موهبته، بينما لا يقدِّم للواقع شيئا يُذكَر؟ ولماذا لا نحاسبه؟ وحتى لو كان يقدِّم شيئا عامًّا مهمًّا للغاية؛ أفلا يقدِّم الآخرون خدماتٍ عامَّة جليلة ولا يحصلون فى المقابل على ما يوفِّر لهم أدنى الأمان؟ هل القضية فى بريق منتجه هو وانطفاء منتجات الآخرين؟ ليس الكلام صحيحا فى المطلق بالمناسبة، ثم أين العدالة هنا- عدالة أن العَيْشَ الكريم للكل فلا يصح احتكاره؛ وعليه لا يصح أن يقبض أجيرٌ مِلْيُونًا عن عملٍ ما ولا يقبض آخر مِلِّيمًا عن عملٍ كعمل أخيه المحظوظ بحجَّة اختلافهما فى السمعة؟!.
أنا لا أنكر التفاوت بين الناس فى القدرات، ولا الفروق الفردية بينهم، لكننى، من جهة مقابلة، أرفض أن يشيع الظلم ويفشو الحسد والحقد والقتل وتتجذَّر الرَّذيلة واللُّصُوصِيَّة؛ ولذا أطالب بتغليب المعنويَّات على المادِّيَّات تحصينا للحياة، وأدعو إلى عدالة لا تجعل واحدا مليونيرا وآخر شحَّاذا، لا أدعو إلى تساوى الدُّخُول طبعا لكن إلى رفع المنخفض منها وجعلها كلِّها نسبية بقوانين صارمة؛ فالتساوى مستحيل عمليًّا وليس بالمنطقى، كما أنه يَكْبَحُ المنافسة ويحبط محاولات التَّميُّز.. ومحبِّذوه واهمون لا حالمون وأدعياء مثالية.
ما دامت الأموال، بأحجامها الخيالية المعلنة، مدفوعةً لإعلاميين ولاعبين وأبطال أعمالٍ فنية، أقصى طموحاتهم الوصول للناس؛ فجميع الناس بمثابة شركاء لهم وحقُّهم الطبيعى أن يُبْدُوا آراءهم فى هذه الأموال ويضعوا لها أسقفًا لو أرادوا، خصوصًا أن الظروف الاقتصادية ببلادنا قاسية، والغلاء كوت نيرانه الأغلبية.
إن التفريط فى الحقوق، بعيدا مؤقتا عن حديث الواجبات، أفضى بنا إلى ما أفضى إليه من رسوخ طبقيَّةٍ كريهةٍ تُفَرِّق بيننا؛ فالأغنياء منعَّمون فى غرفهم المعزولة بالعلياء، وكم من موظف حكومى بالغ التأثير بدائرته ولا يتقاضى ما يستره، وكم من ذى طاقة عبقرية أهدرت البطالةُ طاقته، وكم من أمَّهات عزيزات النُّفوس مات أزواجهن المكافحون وتركوهن لمعاشاتٍ ضئيلةٍ لا يدرين كيف يستكملن بها مشاوير الحياة مع اليتامى الذين فى رقابهن.. لكن كأن هؤلاء، وأمثالهم، فى ذمَّة الرِّيح.